رجاء
عندما هاجر الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - من مكة هو والمسلمون إلى المدينة، أحسُّوا بجوّ مخالف تمامًا لما عهدوه وألِفوه في " مكة"، من الجفاف وشدَّة الحرارة؛ لأنَّ جوَّ " المدينة" متأثّر بما فيها من الماء و الظّل، وبوقوعها في مستوى أعلى من مستوى " مكَّة" فوق سطح البحْر؛ ولذلك أصيبوا بنوْعٍ من الحمَّى يشبه ما يعرف بـ " الملاريا" أو " الأنفلونزا"، لدرجة أنَّهم كانوا يصلُّون وهم قعود.
وكان البعض إذا زادتْ عليه الحمَّى برعْشتها وحرارتها، وآلامِها المبرحة التي تُصاحبُها، ظنَّ أنَّ أجلَه قد حان وأنَّه ميّت لا محالة، فيحنّ إلى " مكَّة" وتزداد نفسُه شوقًا إليْها، فعلى الرغْم من شدَّة حرارتها في فصل الصيف، وشدَّة برودتِها في فصل الشتاء، إلاَّ أنَّها تكاد تكون خالية من الأمراض، اللَّهمَّ إلاَّ في موسم الحجّ حيث تنتقِل عدوى الأمراض من بعض الحجَّاج الوافدين من خارج " مكَّة".
وأخذ البعض من المهاجرين يلعن شَيْبة بن ربيعة، وأميَّة بن خلف؛ لأنَّهما تسبَّبا في إخراجهم من ديارهم، ولكنَّ الإسلام نَهى عن لعن أيّ شخص إلاَّ إذا مات على الشِّرْك، أمَّا الحي فلا يجوز لعنه؛ أملاً في أن يعلن في يوم من الأيَّام إسلامه.
واشتدَّت الحمَّى، وزادت وطأتُها على أبي بكر الصدّيق، وعامر بن فهيرة، وبلال بن رباح، حتَّى خارت قواهم وأصبحوا في حالة من الإعياء شديدة، فهم لا يكادون يفيقون من إغماء إلاَّ ويتعرضون لآخر، وبلغ الحنين إلى " مكَّة" بالمهاجرين مبلغه، حتَّى إنَّه ليروى أنَّ رجُلا قدِم من " مكَّة" فسألتْه السيِّدة عائشة وهي في حضرة الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: كيف تركتَ مكة؟ فذكر الرَّجُل من أوصافها الحسنة وأفاض في وصفه، الأمر الَّذي جعل عينَي الرَّسول - صلوات الله وسلامُه عليه - تَجري فيهما الدموع، فقال للرَّجل: ((لا تشوّقنا ودعِ القلوب تقرّ)).
ويروى عن السيّدة عائشة - رضي الله عنْها - أنَّها قالت: لمَّا قدم رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قدِمها وهي أوبأ أرض الله من الحمَّى، فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم، فصرف الله تعالى ذلك عن نبيِّه - صلَّى الله عليه وسلَّم.
قالت: فكان عامر بن فهيرة وبلال - مولَيَا أبي بكر - مع أبي بكْرٍ في بيت واحد، فأصابتْهم الحمَّى، فدخلت عليهم أعودُهم، وذلك قبل أن يضرب عليْنا الحجاب، وبِهم ما لا يعلمه إلا الله من شدَّة الوعك، فدنوت من أبي بكر، فقلتُ له: كيف تجدك يا أبتِ؟ فقال:
كُلُّ امْرِئٍ مُصبَّحٌ فِي أَهْلِهِ وَالمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ
فقلت: واللهِ ما يدري أبي ما يقوله! قالت: ثمَّ دنوت إلى عامر بن فهيرة فقلت له: كيف تجِدُك يا عامر بن فهيرة؟ فقال:
لَقَدْ وَجَدْتُ المَوْتَ قَبْلَ ذَوْقِهِ إِنَّ الجَبَانَ حَتْفُهُ مِنْ فَوْقِه
فقلتُ: والله ما يدري عامر ما يقول! قالتْ: وكان بلال إذا تركتْه الحمَّى اضطجع بفناء البيت، ثمَّ رفع عقيرتَه فقال:
أَلا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً بِفَخٍّ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ
وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجَنَّةٍ وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ
قالت عائشة - رضِي الله عنها -: فذكرتُ لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما سمعت منهم، فقلت: إنَّهم ليهذون وما يعقلون من شدَّة الحمَّى، فقال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اللهُمَّ حبِّب إلينا المدينة كما حبَّبت إليْنا مكَّة وأشدَّ، وبارك لنا في مُدِّها وصاعِها وصحِّحها لنا، اللهم إنَّ إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك دعاك لمكَّة، وإنّي عبدك ونبيّك أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكَّة ومثله معه)).
وكان الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يبادر إلى زيارة أصحابه المرضى، ويدخل ديارَهم وبيوتَهم يعودهم، ويدْعو لهم بالبركة والعافية، وقد اتَّخذ المرضى لعلاج الحمَّى ما كان أهل " المدينة" يألفونه من أصناف الأدوية، فمنَّ الله - عزَّ وجلَّ - عليهم بالشفاء.
ولقد خلَّف المهاجرون وراءهم في " مكَّة" أموالهم وأرضهم وديارهم التي اغتصبها المشركون، فقد كان كفَّار " قريش" يضنُّون على أي مهاجر أن يُغادر " مكَّة" ويأخذ معه ما يملك أو بعض ما يملك، فكانوا يَمنعون مَن يقدرون عليه أن يحمل معه شيئًا من ماله، كما فعلوا مع صُهيب الرّومي، فإنَّه لما عزم على الهجرة تعرَّض له بعض كفَّار " قريش" وقالوا له: أتَيتَنا صعلوكًا فكثر مالُك عندنا وبلغت الذي بلغت، ثمَّ تريد أن تخرج بمالِك ونفسك، والله لا يكون ذلك، فردَّ عليْهم صُهيب قائلا: "يا معشر قريش: إنِّي مِن أرماكم، ولا تصِلون إليَّ حتَّى أرميَكم بكلّ سهمٍ معي، ثمَّ أضربكم بسيْفي، أرأيتم إن جعلتُ لكم مالي أتخلون سبيلي؟" قالوا: نعم، قال: "فإنّي جعلت لكم مالي"، فجرَّدوه بذلك من كلّ ما يملك.
وعندما علم الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ربح صُهيب، ربح صهيب))، وفي هذه الحادثة نزل قولُ المولى - عزَّ وجلَّ -: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 207].
وقاسى المهاجِرون مقاساة شديدة في أوَّل عهدهم بـ " المدينة" حتَّى لقد ذهب حمزة بن عبد المطلب عمّ الرَّسول إلى الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وطلب منه أن يَجد له ما يقتاتُ به، وعندئذٍ اقتضت الظروف السياسيَّة والاقتصاديَّة، وقبل ذلك كله روح الإسلام، أن يتآخى المسلِمون، وأن يشعُر كلّ فرد منهم أنَّه مكفول في مجتمع المسلمين كفالة تامَّة، وأنَّه لا ضياع له فيه، وأنَّ المسلمين جميعًا إخوة أخوَّة تامَّة، يعطي غنيّهم فقيرهم بالمعروف، ويُعين الموسرُ منهم المعسر على الحياة، وحتَّى يكون الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - من المهاجرين والأنصار مجتمعًا واحدًا، قويًّا متماسكًا قوامه المحبَّة المودَّة، والتَّعاطُف والتَّراحُم، والتَّعاون والإخاء؛ قال - صلوات الله وسلامه عليه -: ((تآخَوا في الله أخويْن أخويْن)).
ولقد طبق الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - نظام المؤاخاة في " مكة" قبل هجرته إلى " المدينة" بعشر سنوات، عندما كانت الدَّعوة الإسلاميَّة في طوْرِها الأوَّل ولا تزال سرّيَّة، وحيث كان المسلمون يتَّخذون من دار الأرقم بن أبي الأرقم عند " الصَّفا" مقرًّا لاجتِماعاتهم، ومحفلاً لمشاوراتِهم وحديثهم، ومركزًا لتدْبيرهم، ومخبأً مؤقَّتًا إلى أن يقوى ساعدهم ويشتدّ، ويكثر عددُهم، ويجمعوا كلِمَتَهم، فيظهر الأمر وتعلن الدَّعوة.
وقد أفادت المؤاخاة في " مكَّة" إفادة عظيمة؛ لأنَّها ربطت بين المسلمين الذين اضطهدوا من أجل التَّوحيد برباط أقوى من رباط إخاء القرابة، فقرابة الإسلام أقْوى من رابطة الدَّم، وقد غلبت أخوَّة الإيمان كلَّ صلة سواها، فنسِي بها المسلم قبيلتَه، وخرج على عشيرته، وخاصم الولد أباه، وقاتل الأخُ أخاه: { لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22] وأصبح المسلِمون بها أسرة واحدة.
وعقد الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - اجتماعًا للمُؤاخاة في المسجِد، وأخذ يتفقَّد أصحابه واحدًا واحدًا، وهو يقول: أين فلان، أين فلان؟
وآخى الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بين أبي بكْرٍ وخارجة بن زيد، وبين عمر وعتبان بن مالك، وتآخى كلّ واحد من المهاجرين مع واحدٍ من الأنصار.
وآخى الرسول بينَه وبين عليّ بن أبي طالب - كرَّم الله وجهه - فأمسك بيده وقال: ((هذا أخي))، وآخى الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بين عمِّه حمزة بن عبد المطلب، أسد الله وأسد رسوله، وبين مولى الرَّسول الكريم زيد بن حارثة، وكان عثمان بن عفَّان أخًا لرجُل لم يبلغ منزلته من الغنى والثَّراء.
ويذهب بعض العلماء إلى إنكار صحَّة مؤاخاة الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعلي، وحمزة وزيد قائلين بأنَّ المؤاخاة قد شرعتْ بقصد أن يستفيد المتآخون بعضهم من بعض، ولتتآلف قلوب بعضهم على بعض، وإذًا ليس هناك أيّ معنى يبرر مؤاخاة الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - لأي أحد منهم، ولا مؤاخاة مهاجري لمهاجري آخر، إلاَّ أن يكون للإخاء غرض آخر.
وإنَّني أعتقد أنَّ الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يؤاخِ بينه وبين علي، وبين حمزة وزيْد، إلاَّ ليضرب بذلك المثل الأعلى والقدوة الحسنة للتَّواضُع، فلم يستنكف - وهو رسول الله ونبيه - من أن يؤاخي رجُلا من المسلمين، فحذا الأغنِياء حذوه وتآخَوا مع الفقراء المعْدمين، ولم يستكبر السَّادة عن التَّآخي مع العبيد.
وهذا هو شأن الإسلام دائمًا، من يوم أن أرسل الله - عزَّ وجلَّ - رسوله - صلوات الله وسلامه عليه - وإلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، لا مكان فيه لفخر، ولا موضع فيه لكبر، ولا فضل لعربي على عجمي إلاَّ بالتَّقوى، ولا تعالي من إنسان على آخر، بل العمل الصَّالح هو مجال التَّفاخُر والتَّفاضُل بين النَّاس، أمَّا فيما عدا ذلك فالكلّ سواسية أمام الله - عزَّ وجلَّ - كأسنان المشط.
إنَّ الإخاء مبدأ من المبادئ النَّبيلة السَّامية، التي تنشر بين النَّاس روح المحبَّة والتَّعاطُف، وتشيع بينهم المودَّة والتَّراحم والإيثار، فإذا كان الإخاء في سبيل إعلاء راية الحقّ وفي سبيل الله - عزَّ وجلَّ - وصل الحبّ بين النَّاس أعلى درجاتِه، وبلغت المودَّة بينهم أقصى مبلغ؛ لأنَّ هذا الإخاء دائم لا ينفصل، ومتَّصل لا ينقطع؛ لأنَّه من صنع الله - عزَّ وجلَّ - وهو الذي يتعهَّده برعايته، ويرعاه بعنايته، وصدق - جل شأنُه - حيث يقول: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].
ونظام المؤاخاة لم يسبق الرَّسولَ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيه أحد، وهو عمل دنيويّ يعتمد على العاطفة الدينيَّة، وهو عظيم النَّفع بالغ الأثر في نفوس أصحابه، وقد أراد به الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يُزيل كلَّ ما في القلوب من حقدٍ وغلّ وكراهية، وأن يحلَّ فيها الحب والإخلاص والاتِّحاد، ويقضي قضاء تامًّا على أسباب النزاع والخصام.
وقد كان العرب قبل أن يدخُلوا في الإسلام ويستظلُّوا برايته في شقاق وعداء، وكثيرًا ما كانت تقوم الحروب بيْنهم لأبسط الأسباب وأتْفهها، وهذه كانت حالة قبيلتَي " الأوس" و " الخزرج" فأراد الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يقتلِع جذور هذا الشّقاق وذلك العداء، ويبذر مكانَهما بذور الخير والودّ، والرَّحمة والإخاء؛ حتَّى لا تكيد بعض القبائل لبعض، ويكون ذلك سببًا في ضعف الدَّولة الإسلاميَّة وهي ما زالت في بادئ أمرها، فوحَّد الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - المسلمين وآخى بينهم، وأصبحت الدَّولة بعد هذا الإخاء مثلا يُحتذى في القوَّة والمنعة والعزَّة.
ولقد ظهر الإخاء واضحًا جليًّا في صفات الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في أصحابه في تعاوُنهم وتوادّهم، وفي تراحُمهم وتعاطفهم، وفي تعامُلِهم بالبرّ والرَّحمة، فكان الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُجالس أصحابه ويُخالطهم ويحادثهم، ويبدؤُهم بالسَّلام، ويداعب أطفالهم ويُجلسهم في حجره كأنَّهم أولاده، ويحثّ أصحابه على زيارة المرضى، وتشييع الجنازات، والعطْف على الفقراء، والرَّحْمة بالمساكين، والبرّ باليتامى، ويبشِّرهم بالجنَّة إن هم فعلوا ذلك.
وعبَّر الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن تعاوُن المؤمنين وتراحُمهم وتوادّهم وتعاطُفهم في أبدع صورة، حيث قال: ((مثلُ المؤمنين في تراحُمهم وتوادّهم وتعاطُفهم كمثَل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضوٌ تَداعى له سائرُ الجسد بالسَّهر والحمَّى)).
وفي صورة أخرى رائعة يقول الرَّسول - صلوات الله وسلامه عليه - عن هذا التَّعاون والإخاء: ((المؤمن للمؤمن كالبنْيان المرْصوص يشدّ بعضه بعضًا)).
وسأل رجلٌ الرَّسول - عليه أفضل الصَّلاة وأزْكى السَّلام -: أيّ الإسلام خير؟ فقال له: ((تطْعِم الطَّعام، وتقرأ السَّلام على كل مَن عرفت ومَن لَم تعرِف)).
ويقول الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، مَن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن نفَّس عن مؤمنٍ كربةً من كرب الدُّنيا نفَّس الله عنه كربةً من كُرَب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسِرٍ يسَّر الله عليْه في الدّنيا والآخرة، ومَن ستر مسلِمًا ستره الله في الدنيا والآخِرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)).
ومن أبرز مظاهر هذا الإخاء: أن يؤْثِر المسلم غيره على نفسه، ويقدّم ما فيه منفعته وخيره على منفعة وخير نفسه، وقد اتَّصف المسلمون على عهد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بهذه الصّفة الحميدة، ونوَّه القرآن الكريم بهذه الأخوَّة، فقال - تبارك وتعالى - في مدح الأنصار: { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر : 9]، وقال الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في حقِّهم كلِمَتَه الخالدة: ((لوْلا الهجرة لكنتُ امرءًا من الأنصار)).
لقد كان المسلم من الأنصار يحب أن يقتسم ماله وداره مع أخيه المهاجري، بنفسٍ طيِّبة وروحٍ سمحة راضية، بل ويطلّق بعض زوجاتِه ليتزوَّجها أخوه، الأمر الَّذي أدَّى إلى تَخفيف آلام المهاجرين في غرْبتِهم، فقد كانوا يتألَّمون لفراق الوطن والأهل والأحبَّة في " مكة".
ومن أوْضح الأمثلة على ذلك: أنَّ عبدالرحمن بن عوف، وسعد بن الرَّبيع الأنصاريّ كانا أخوين في الله، ولم يكن عبدالرحمن في " المدينة" يَملك شيئًا، فقال له سعد: أي أخي، أنا أكثر أهل المدينة مالا، فانظُر شطر مالي فخُذْه، وتَحتي امرأتان، فانظُر أيَّهما أعْجب إليْك حتَّى أُطلِّقها، فقال له عبدالرحمن: "بارك الله لك في أهلِك ومالك، دلّوني على السوق".
وبدأ عبدالرحمن يبيع الزبدة والجبن، واستطاع بما له من خبرةٍ ودراية في التِّجارة أن يصل في مدَّة قصيرة إلى أن يُصبح غنيًّا، وتزوَّج إحدى نساء " المدينة" وصارت له قوافل تجاريَّة تذهب وتجيء، وصنع صنيع عبدالرحمن الكثير من المهاجرين ممَّن لهم خبرة بالتجارة، فيسَّر الله - عزَّ وجلَّ - عليْهم وبارك لهم.
أمَّا الَّذين لم تكن لهم درايةٌ في التِّجارة ولا يعرفون عنها شيئًا، فقد عملوا في أراضي الأنصار، واشتغلوا بالزّراعة عن طريق المُزارعة مع ملاك الأرض، وكانوا يلْقَون الكثير من التَّعب والشدَّة في حياتِهم، ولكنَّهم يرفضون أن يكونوا ثقلا وعالةً على إخْوانِهم الأنصار، مهْما كلَّفهم الأمر من جهد، ومهْما لاقَوا من متاعب.
وأمَّا الذين كانوا في حالة شديدة من الفقر والعوز، ليس لهم مكان يلجؤون إليْه، فقد أفرد لهم الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - صُفَّة المسجد يبيتون فيها ويأوُون إليها؛ ولذلك سمُّوا أهل الصفَّة، وجعل لهم رزقًا من أموال المسلمين من المهاجرين الَّذين أعطاهم الله - عزَّ وجلَّ - رزقًا حسنًا وبسطة في العيش، وكان من بين أهل الصفَّة أبو ذر الغِفاري، وأبو هريرة الَّذي وصف حالة البؤس والعدم التي كان عليْها هو وزملاؤه بقوله: "كان ليُغشى عليَّ فيما بين بيْت عائشة وأمّ سلمة من الجوع"، وكان البعد بين البيتَين بعض الخطوات.
وكان من أثر إيثار الأنصار للمهاجرين أنْ قال المهاجرون للرَّسول - صلوات الله وسلامه عليه -: "ما رأيْنا مثلَ قومٍ قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أكثرَ بذلا من كثير، لقد كفَوْنا المؤونة، وأشركونا في المهنأ، حتَّى لقد خشِينا أن يذهبوا بالأجر كلِّه"، فردَّ عليهم الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقوله: ((لا، ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم)).
ولم يكن هذا الإخاء متَّخذًا شكْلا صوريًّا ظاهريًّا فقط، بل كان نابعًا من القلْبِ بكلِّ ما فيه من عاطفة، كعاطفة الأشقَّاء تمامًا ويزيد عليه، وقد قال - تبارك وتعالى - في شأنه: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 72].
وقد قال ابن عبَّاس - رضِي الله عنهُما -: "آخى رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بين المهاجرين والأنْصار - رضِي الله تعالى عنهم - فكان المهاجريّ يرِثُه أخوه الأنصاريُّ إذا لم يكن له بالمدينة وليٌّ مهاجر، ولا توارث بينه وبين قريبه غير المسلم، ويدلّ على ذلك قولُ الله - عزَّ وجلَّ -: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72].
فمن هذا القول نعلم أنَّ الولاية في الميراث، لا في النَّصر والمؤازرة؛ ولذلك أوْصى حمزة بن عبد المطلب في بداية موقعة " أحُد" بأن يرثَه أخوه زيد بن حارثة، إذا استشهد في هذه الموقعة.
بيْد أنَّ التَّوارث بالإخاء لم يستمرَّ طويلا، فقد نزل في موقعة " بدر" قولُ الله - عزَّ وجلَّ -: { وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 75]، فنسخت هذه الآية الكريمة سنَّة التَّوريث بالمؤاخاة؛ لأنَّ المسلمين خرجوا من موقِعة " بدر" منتصِرين غانِمين، وهزموا " قُريشًا" وأمِنوا جانب التَّهديد بهجوم خارجي، ووهنتْ شوكة المشركين واليهود في " المدينة"، ولم يعُد الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في حاجة لمُوادعتِهم ومحالفتهم؛ لأنَّهم صاروا خاضعين لقانون الدَّولة الإسلامية مرغمين مضطرّين، وقد أصبح أولو الأرْحام للمهاجرين والأنصار مسلمين، فلا مبرّر لحرمانِهم من ميراث أقاربِهم، ولكن بقِي التَّوريث لا ينفي عاطفة الإخاء نفسها؛ لأنَّ هذه العاطفة قوِيت بمرافقة الجهاد في سبيل الله - عزَّ وجل - وفي سبيل إعلاء دينه.
وكان الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - كلَّما رأى بادرة من بوادر الانقِسام، أو ظاهرةً من ظواهر التفرُّق، قضى عليْها في وقتها، وأخْمد نار الفِتْنة في مهدها، فقد ساء اليهود ما شاهدوه من تآخِي الأنصار، وتعاطُف بعضهم على بعض، واجتِماعهم بعد التفرُّق والانقسام، وفي هذا أعظم الخطر عليهم، فدبَّروا مؤامرة ليوقعوا بها بين قبيلتَي " الأوس" و " الخزرج" وتنشب الحرب بينهُما من جديد، فبعثوا غلامًا إلى جماعة من الطَّائفتين يذكّرهم بيوم " بعاث" وما حدث فيه من انتِصار " الأوس" وهزيمة " الخزرج": " إن شئتم عدنا إلى مثلها"، وتوتَّرت الأعصاب وتأزَّم الموقف، وأصبح ينذر بشر مستطير.
ووصل الخبر إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقام مسرعًا من فورِه إليهم، يذكّرهم بأنَّ الله - عزَّ وجلَّ - قد جعلهم إخوة متحابّين، فعادوا إلى عقولهم، وثابوا إلى رشْدِهم، وندموا على ما بدر منهم، وفشلت مؤامرة اليهود، وقد امتنَّ الله - عزَّ وجلَّ - عليهم بهذه الوحدة في قوله - تبارك وتعالى -: { وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103].
وبلغ من حِرْص الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - على تلافِي أسباب الفرقة، والقضاء على بوادرِها، أنَّه كان لا يخصُّ أحدًا بشرف أو بفضل؛ كي لا يحسُدَه النَّاس ويثوروا عليه، فعند وصوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى " المدينة" مهاجرًا تسابق الأنصار إلى أن ينالوا شرف إقامتِه عندهم، ولكنَّه ترك ناقته لتبرُك حيث شاء الله - عزَّ وجلَّ - لها أن تبرك، ولم يؤثر أحدًا بالنزول عنده؛ مراعاةً لشعور الآخرين.
وعندما مات أسعد بن زرارة نقيب " بني النَّجَّار" أخوال الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكان من أوائل الأنصار الَّذين بايعوه في " مكَّة"، وقد وجدَه الرَّسولُ الكريم عند وصولِه إلى " المدينة" يُقيم الصَّلاة للمهاجرين والأنصار الَّذين سبقوه، وكان يُرسل الطَّعام والموائد إلى الرَّسول - صلواتُ الله وسلامُه عليْه - أثناء إقامته في دار أبي أيوب الأنصاري، والتي بلغت تسعة أشهر، فلمَّا مات هذا الصَّحابي الجليل حزِن عليه الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - حزنًا شديدًا، وجاء أتباعه من "بني النَّجَّار" إلى الرَّسول الكريم قائلين: "إنَّ هذا قد كان منَّا حيث قد علمت، فاجعل منَّا رجُلا مكانه، يقيم من أمرنا ما كان يُقيم"، فأجابَهم - صلوات الله وسلامه عليه - بقوله: ((أنتم أخوالي، وأنا بما فيكم وأنا نقيبكم))، ولَم يُرِد أن يَختار نقيبًا من بينهم خلفًا لأسعد بن زرارة؛ حتَّى لا يحدث بينهم ما يؤثّر على وحدتهم وعلى إخائهم؛ لأنَّ النقابة كانت من مفاخرهم، فلم يشأ أن يخصَّ بذلك البعض دون البعض الآخر.
وقد أصدر الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وثيقةً تنصُّ على أن يتولَّى هو بنفسه القضاء بين الناس دون سواه.
ولقد ظلَّ الصَّحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - متأثِّرين بما غرسه رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في نفوسِهم من بذور المحبَّة والمودَّة والإخاء إلى ما بعد وفاتِه، فقد رُوي أنَّ بلال بن رباح - رضِي الله عنه - خرج إلى الشَّام مجاهدًا، فقال له عُمر بن الخطَّاب: "إلى مَن يجعل ديوانك؟" فقال بلال: "مع أبِي رويحة لا أُفارقه أبدًا؛ للأخوة التي كان رسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - عقدها بيني وبينه".
إنَّ دعوة الإخاء تتَّفق وطبيعة الإسلام؛ لأنَّه دين المحبَّة والمودَّة والسَّلام؛ ولهذا كوَّن الجماعة المتحابَّة القويَّة التي لا ترضى بالهوان ولا تقبل الذُّلّ، وإنَّما تثبت في كلّ مجال وتأخذ الزّمام، والتاريخ شاهد على ذلك، فلولا الأخوَّة التي ربطت بين المسلمين برباط متين مقدَّس لا ستطاع المستعمِرون بعد أن اقْتسموا بلاد الإسلام أن يقْضوا على شخصيَّتها وأن يمحوا أهلَها، ولكنَّهم لم يتمكنوا من ذلك؛ لأنَّ الإخاء الَّذي يربط المسلم بالمسلم إخاءُ أرْواح لا إخاء أبدان، والارتباط بين المسلم والمسلم ارتباط إيمان لا ارتباط أوطان.
وقد آتت هذه البذورُ ثِمارَها في الأمَّة الإسلاميَّة، فكانت إذا هُوجِمت دافعت، وإذا حاربت انتصرت، وإذا أقدمتْ على أمر كُتِب لها فيه النَّجاح، وإذا اعتدى عليْها عدو كانت عاقبته الهزيمة والمذلَّة والاندِحار، فالله - جلَّ شأنه - يقف بجانبها، يؤيّدها بعونِه ويكتب لها النَّصر، وصدق - تبارك وتعالى - حيث يقول: { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47].
إنَّ مجتمعًا يقوم على مثل هذه المبادئ من التكافُل والتَّواثُق، والتَّآخي والإيمان، لا يُمكن أن توجد فيه ثغرات ينفذ منها العدوّ ليستأصل شأفتهم، أو يشعل بينهم روح الصّراع والتناحُر كما هو حال مجتمعِنا اليوم؛ لأنَّنا لم نحقّق أخوَّة الإسلام كما حقَّقها الصَّحب الكرام.
المصدر موقع الالوكة