في أحيان كثيرة، تبدو أولويات البيئة ، في دول العالم النامي بشكل خاص، متناقضة مع أولويات التنمية. ويبدو هذا التناقض واضحا بجلاء عندما يتعلق الأمر بأهوار العراق.
كانت إعادة الحياة إلى أهوار العراق خلال السنوات الثلاث الماضية قصة نجاح بيئية بكل المقاييس. فقد تعرضت الأهوار لدمار شبه كامل في تسعينيات القرن الماضي عندما حول نظام صدام حسين مجاري المياه بعيدا عن المنطقة كعقاب لأهلها على دعمهم للتمرد الشيعي في أعقاب حرب الخليج الأولى. وهو ما قلص مساحة الأهوار، التي كانت يوما أكبر منطقة مستنقعات في الشرق الأوسط، إلى سبعة في المائة فقط من مساحتها الأصلية التي كانت تقدر بما يتراوح بين 15 و 20 ألف كيلومتر مربع. وكانت أهوار العراق، التي تقول بعض الدراسات التوراتية إنها كانت موقع جنات عدن، تغطي مساحة شاسعة من الأرض وتشتهر بتنوعها البيولوجي وإرثها الثقافي.
وقد أشارت دراسة أجريت في سبعينيات القرن الماضي إلى أن الأهوار كانت موطنا لثمانين نوعا من الطيور، بما في ذلك أكثر من نصف ما كل هو موجود على كوكبنا من طائر الحذف المرخم marbled teal النادر ونحو 90 في المائة من كل ما هو موجود على كوكبنا من طيور غريد القصب البصراوي، المعروف علميا باسم Acrocephalus griseldis.
وبالإضافة إلى ذلك، تعتبر الأهوار موطنا لتفريخ وتوالد الأسماك والروبيان، فضلا عن كونها تعمل كمرشح طبيعي للمخلفات والملوثات الأخرى في نهري دجلة والفرات.
ويعيش عشرات الآلاف من عرب الأهوار في المنطقة معتمدين على مواطنها في الصيد وكمراع لقطعان الماشية.
وفي أعقاب انهيار نظام صدام حسين في العام 2003، حطم السكان المحليون السدود ومسدات الفيضان لتتدفق المياه ثانية إلى الأهوار وتستعيد على الفور نحو 20 في المائة من مساحتها.
وقد تضافرت عوامل عدة في قصة النجاح البيئي هذه. ومن بين هذه العوامل الاهتمام غير المسبوق بمنطقة الأهوار من قبل العديد من المنظمات والوكالات الدولية المعنية بشئون البيئة ، على رأسها برنامج البيئة التابع للأمم المتحدة، والجهود الحثيثة من قبل الحكومة العراقية، والأهم من هذا وذاك ذلك الإصرار الذي أظهره عرب الأهوار في سعيهم لإعادة الحياة إليها والعودة إلى ديارهم رغم ظروف الحياة القاسية.
واليوم، يقول برنامج البيئة التابع للأمم المتحدة إن مساحة الأهوار التي تغمرها المياه الآن تقدر بنحو 60 في المائة من المساحة التي كانت عليها الأهوار في 1973 - 1976 قبل مشاريع التجفيف.
لكن الأمر بالنسبة لعرب الأهوار ليس بهذه الرومانسية. فالحياة في المنطقة شاقة بكل المعايير. ورغم أن الحكومة العراقية تعلن عن تخصيص ملايين الدولارات لمنطقة الأهوار بهدف توفير خدمات أفضل مثل التعليم، والرعاية الصحية والاتصالات، فإن حياة أبناء الأهوار لم تتحسن كثيرا.
ويبقى التحدي الأكبر هو الحفاظ على التقدم الذي تحقق والسير قدما في مشاريع إعادة الأهوار إلى سابق عهدها. وهو أمر بالغ الصعوبة في ظل الظروف القاسية التي يعانيها العراق حاليا، خاصة فيما يتعلق بالحفاظ على مستوى ثابت من تدفقات المياه لمنطقة الأهوار.
وقد أثارت دراسة حديثة قدمت للجمعية الإيكولوجية البريطانية الشكوك حول جدوى الجهود الرامية إلى استعادة أهوار العراق لعافيتها على المدى البعيد بسبب عدم اليقين إزاء إمدادات المياه لمنطقة الأهوار.
وقد حذرت هذه الدراسة، التي تعد أول تحليل إيكولوجي مفصل يقيم مشاريع إحياء الأهوار، من أن الطلب المتزايد على المياه من قبل المزارعين والمدن قد يؤدي إلى استعادة جانب فقط من الأهوار.
وقد ذهب رئيس فريق البحث كورتيس رتشاردسون، الأستاذ بجامعة دوك بنورث كارولينا بالولايات المتحدة، إلى أن إيقاع الانتعاش الحالي الأسرع من المتوقع لن يستمر بالمعدلات نفسها على المدى البعيد.
ويقول رتشاردسون: «أظهرت دراساتنا الميدانية الأخيرة معدلات رائعة لعودة الأنواع الأصلية إلى مواطنها في الأهوار التي غمرتها المياه مجددا، بما في ذلك اللافقاريات الكبيرة، والنباتات والأسماك والطيور».
لكنه يردف: «غير أن توافر المياه مستقبلا من أجل كامل استعادة الأهوار بات محل شك بسبب زيادة الطلب الزراعي والحضري على المياه في العراق، وكذلك في تركيا، وسورية وإيران، وهو مايفترض أننا لن نتمكن إلا من استعادة جانب فقط من مساحة الأهوار السابقة».
ومن مفارقات الأقدار أن عدم الاستقرار في العراق ساعد على تعافي الأهوار، كما يقول حسان بارتو كبير الخبراء البيئيين في برنامج البيئة التابع للأمم المتحدة. ويشير بارتو إلى أن: «السنوات القليلة الماضية كانت فترة جيدة بالنسبة للأهوار لأنها شهدت مواسم تساقط غزير للأمطار والثلوج على المرتفعات التي ينبع منها نهرا دجلة والفرات».
ويضيف أن عدم الاستقرار الحالي في العراق كان يعني أيضا أن كميات أقل من المياه تنصرف للاستخدامات الزراعية، وهو ما سمح بتدفق المياه مجددا إلى نحو أربعين في المائة من مساحة الأهوار. ويردف: «لكن يمكننا أن ندرك أنه في السنوات القادمة، عندما يعود الاستقرار إلى العراق، ستزيد كميات المياه المنصرفة للاستخدامات الأخرى، مثل الزراعة والطاقة الكهرومائية».
ويقول البروفيسور رتشاردسون إن هناك علاقة مباشرة بين كميات المياه المتدفقة إلى الأهوار وعودة الحياة إليها.
ويضيف: «إن العلماء يصبحون عصبيين جدا عندما يتعلق الأمر بتحديد الأهداف، لكن المساحة التي سنستعيدها من الأهوار ستتناسب طرديا مع كميات المياه المتوافرة».
«وتقدر دراسة لباحثين عراقيين أن استعادة الأهوار ستحتاج إلى نصف إمدادات المياه المتوافرة لدى العراق اليوم، وهو أمر بالغ الصعوبة، فالاحتياجات الإنسانية تأتي أولا».
ويقول السيد بارتو إن تحديد الأهداف يمكن أن يساعد في إدارة الأهوار على المدى البعيد: «فهناك حاجة لتحديد هدف المساحة التي نريد استعادتها، سواء كانت 50% أو 60%، الخ».
ويضيف: «ذلك سيجعل من الأسهل تقرير كيفية تحصيص موارد المياه المتاحة للأهوار».
لكن البروفيسور رتشاردسون، الذي عرض نتائج دراسته أمام المؤتمر السنوي للجمعية الإيكولوجية البريطانية الذي عقد في جامعة أكسفورد في 5 - 7 سبتمبر الماضي، أكد أنه يحدوه الأمل إزاء مستقبل المنطقة، رغم التحديات التي ينطوي عليها المستقبل. وكان البروفيسور رتشاردسون قد أجرى مسوحا ميدانية في العامين 2003 و 2004 ثم ساعد في تدريب فريق محلي من العلماء العراقيين لمواصلة إجراء مسح شهري لنوعية وتدفقات المياه، فضلا عن مراقبة الطحالب، والحشرات، والأسماك والطيور والنباتات. وهو يقول: «إنني متفائل بأنه يمكننا الحفاظ على مساحة كبيرة من الأهوار، خاصة وقد وضعنا الآن حدا لجريمة الإبادة العرقية البيئية التي دمرت الأهوار في بادئ الأمر».
«إن استعادة أهوار بلاد ما بين النهرين أمر ممكن وفي فترة زمنية أقل بكثير مما توقعنا في البداية إذا وافقت الوزارات العراقية على تخصيص حد أدنى من حصص المياه للأهوار على نحو يضمن استدامة عمل النظام الإيكولوجي للأهوار، خاصة في سنوات الجفاف». ويضيف: «سيتعين علينا أن نضع الأهوار في غرفة العناية المركزة لفترة من الوقت، وسنستعيد مساحات كبيرة منها فعلا نظرا لتوافر إمدادات مياه مستدامة».
ويحذر رتشاردسون من أن: «دعم وكالة التنمية الدولية الأمريكية USAIDS والوكالات الدولية الأخرى يبقى محدودا، وأن التمويل المستقبلي سيعتمد على إرادة الحكومة العراقية لتوفير الاعتمادات المستمرة لاستعادة الأهوار. وعدم الاستقرار الداخلي الحالي وغياب القانون في البلاد سيفاقم من المشكلة». وهو يؤكد: «لكن علينا أن نحافظ على حد أدنى من حصص المياه مخصصة للأهوار وإلا فإنه عندما سيجد الجد، ستخسر الطبيعة».
كيف تتخفى الكائنات الحية؟
كلما حصل كائن حي على ميزة أفضل زادت فرصته في البقاء على قيد الحياة، وزادت فرصته بالتالي في التكاثر وتوريث صفاته. وبسبب هذه الحقيقة البسيطة طوّرت أنواع من الحيوانات طرق تكيّف خاصة لمساعدتها في الحصول على طعامها مع عدم التعرض لأن تكون هي نفسها طعاماً لحيوانات أخرى. وأحد أهم طرق التكيّف الطبيعي لدى الحيوانات هو التنكر أو التمويه الطبيعي، أي قدرة الحيوان على إخفاء نفسه من الكائنات المفترسة.
فهناك نوع من الضفادع يسمى بارادوكسوفيلا بالماتا يعيش في مدغشقر. ولون الضفدع البني والأصفر وملمسه الخشن يساعدانه على التخفي في الطين وجذوع الأشجار في البيئة التي يعيش فيها، فلا يراه الأعداء. وهناك أنواع من الضفادع القادرة على التخفي تطورت لديها القدرة على تلوين مظهرها وشكلها بحيث تصبح مشابهة إلى درجة كبيرة لأوراق الأشجار الموجودة في البيئة المحيطة.
ويمكن لبعض الحيوانات الخبيرة في التخفي أن تغير من طرق تنكرها حسب البيئة المحيطة بها. لكن هناك أيضاً حيوانات أخرى لا تتخفى وإنما تطرد أعداءها بأن تموه نفسها كما لو أنها شيء خطير أو لا أهمية له.
وتختلف طرق التخفي من حيوان إلى آخر، وهناك عدة عوامل يتوقف عليها نوع التمويه الذي يلجأ إليه نوع ما من الكائنات الحية. والعامل الأول يرتبط بفسيولوجيا وسلوك الحيوانات فلا يتخفى حيوان ذو فراء مثل تخفي حيوان ذي قشور، والحيوان الذي يسبح في بحيرات واسعة تحت الماء تتطور لديه طرق تخفٍ مختلفة عن حيوان يتأرجح بين الأشجار. والعامل الثاني هو البيئة التي يعيش فيها الكائن الحي ويكون في أغلب الأحوال هو العامل الحاسم في طبيعة التخفي. وأكثر تقنيات التمويه البسيط أن يتآلف شكل الحيوان ولونه مع «خلفية» ما يحيط به. وحيث إن الهدف النهائي للتمويه هو التخفي من الحيوانات الأخرى فإن طبيعة الأعداء تدخل أيضاً في الحسبان، فلا معنى مثلاً لأن يتخفى حيوان بتغيير لونه إذا كان عدوه لا يميّز الألوان.
وتلجأ أغلب الحيوانات للتخفي اللوني، ويمكن أن نرى هذا النوع من التمويه في كل مكان، فالوعل والسنجاب والقنفذ وحيوانات أخرى كثيرة لها لون بني «قريب من لون الأرض» تتآلف مع اللون البني للأشجار والتربة في مستوى أرض الغابات. وسمك القرش والدلافين وكثير من الكائنات البحرية لها لون رمادي أزرق مما يساعدها على التخفي في الضوء الخافت تحت الماء.
وهناك طريقتان لإنتاج ألوان مختلفة لدى الكائنات الحية، الأولى تتم على مستوى الخلايا التي تنتج صبغات طبيعية لتغيير لون الكائن كيميائياً، ويؤدي التركيب الكيميائي لهذه الصبغات إلى امتصاص ألوان معينة من الضوء مع انعكاس ألوان أخرى. ويكون اللون الظاهري للصبغة مركّبًا من كل أطوال موجات الضوء المرئي التي تعكسها هذه الصبغة. وقد تعمل بعض مكونات جسم الكائن الحي كما لو كانت منشوراً يعكس الضوء المرئي المنتشر بحيث يعكس تكوينات لونية محددة. فالدب القطبي مثلاً له في الواقع جلد أسود لكنه يظهر بلون أبيض لأن لديه شعرًا شبه شفاف، فعندما يسطع الضوء على الشعر تجعله كل شعرة ينحرف قليلاً، وعند انعكاس الضوء المنحرف ينتج اللون الأبيض. ولدى بعض أنواع الزواحف والحيوانات البرمائية والأسماك ذات اللون الأخضر طبقة من الجلد أو الأغشية ذات صبغة صفراء وطبقة لتشتيت الضوء لكي ينعكس اللون الأزرق. وعندما تعمل الطبقتان معاً فإنهما تنتجان اللون الأخضر.
ويتم توارث هذه القدرة على تغيير الألوان، لأن الانتقاء الطبيعي أدى إلى بقاء الكائنات القادرة على التكيف مع البيئة ، خاصة أن نفس هذه البيئة تتغير مع تغير الفصول. فالثعلب الذي يعيش في القطب الشمالي مثلاً يكون لونه أسود في الربيع والصيف ليناسب البيئة من حوله لكنه يتحول إلى اللون الأبيض في الخريف والشتاء لكي يتناسب مع الجليد الذي يحيط به من كل جانب.
كنتُ، إذا ما ساءني، أو أساءني لطفتُ بقلبي أوْ يقيمَ لهُ عذرا
وَأكْرَهُ إعْلامَ الوُشَاةِ بِهَجْرِهِ فأعتبهُ سراً، وأشكرهُ جهرا
وَهَبْتُ لِضَنّي سُوءَ ظَنّي، وَلم أدَع، عَلى حَالِهِ، قَلبي يُسِرّ لَهُ شَرّا