حين انهار برج بابل
صدر عن دار اكتب
رواية د. إياد حرفوش
إنهيار برج بابل
الرواية تقع في 466ص من القطع الوسط
_______________________________
جزء من الرواية
..............................
(7)
حديث السقيفة
أصغت لما رواه عن أحلامه وخواطره، ومضت ساعة في مناقشة الأمر وتقليب وجوهه خلال تناولهما العشاء المكون من سمك الوقار الذي تحبه وشرائح السبيط المقلي التي يفضلها، وبعد أن رفع النادل أطباق الطعام الفارغة، أخرجت من حقيبة يدها علبة سجائرها الرفيعة بالنعناع فأشعلت واحدة، ثم نظرت له نظرة ثاقبة وقالت "الأحلام تباديل وتوافيق من خبرات الماضي؟ ولا علاقة لها بالمستقبل". أجابها بأنه لا يعتقد أنها رؤى ولا يظن بنفسه أنه ملهم من السماء. يعرف تماما أن أحلامه إن هي إلا عوادم عقله الباطن، فكل ما يراه فيها من مشاهد رسمها خياله يوما من واقع دراسته للمكان والزمان والشخصيات التاريخية، لكن ما يحيره هو التوقيت، لماذا بدأت الأحلام الآن؟ أجابته مرجحة أن يكون انشغاله أثناء عمله في كتابه الأخير بالخوارج والمتطرفين المعاصرين الذين يراهم امتدادا للخوارج هو السبب، ولكن تبقى مشكلة، فحلمه حول الخوارج والنهروان استثنائي جدا، أما بقية الأحلام وأهمها حلمه المتكرر حول الإمام "علي" وهو يكتب في بيته قبيل الفجر كلها لا علاقة لها بموضوع كتابه، ثم هو بعد ذلك دارس للتاريخ الإسلامي عامة رغم تخصصه في الفتنة الكبرى، واهتمامه وتأثره الشخصي بعبقرية الإمام علي لا يبرران اقتصار الأحلام على تلك الحقبة تحديدا، علقت ماري بأنه تقريبا يعيش بعقله الواعي بين حقبتين تاريخيتين، الأولى تقع بين القرنين السادس والسابع الميلادي في الجزيرة العربية، وهي حقبة النبي ثم الراشدين ثم الفتنة الكبرى والدولة الأموية وكربلاء، أما الثانية فهي القرن العشرين في الشرق الأوسط، الحرب العالمية ثم الخمسينات والستينات وزخم ثورة يوليو ثم التراجع الثوري في السبعينات. كان يرى الأمر طبيعيا، فالحقبة الأولى تشغله بحكم التخصص، والثانية تشغله لأن واقع المنطقة التي يعيش فيها قد تمت صياغته في تلك الفترة من القرن العشرين، فالخمسون عاما ما بين الحرب العالمية الثانية والتسعينات هي الحقبة التي حددت مصير الشرق الأوسط اليوم وغدا وفي المستقبل المنظور.. سألته عن حلمه بعلي بن أبي طالب وهو يكتب قبل الفجر، وهل له أساس من دراساته وتصوراته؟ فأجابها بأن مسحة الحزن على وجه الإمام حين قام للصلاة تركت في نفسه انطباعا بأنها إمارات حزنه لوفاة الرسول، والمعروف تاريخيا أن الإمام اعتزل في بيته مدة بعد وفاة النبي ، فربما كان المشهد خلال اعتزاله، وهذا يفسر عدم خروجه للصلاة في مسجد الرسول كعادته، سألته لو كان اعتزاله بسبب البيعة وميراث فاطمة الذي منعه عنها الخليفة الأول؟ ضحك وهو ينفذ بعينيه لأغوار عينيها وقال: لا يا مستشرقتي الباحثة عن الشبهات، فمن يعرف التركيبة الشخصية للإمام علي يدرك أن الهرب والاختفاء ليسا من شمائله، ولا يتفقان مع مواقفه التاريخية.
هكذا علق قبل أن يستفيض في شرح واقعة السقيفة وكيف تمت البيعة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، بينما علي يجهز الرسول للدفن، ولذلك فقد تحفظ الإمام على اجتماع السقيفة وما ترتب عليه، فكان يرى أنه الأحق بالخلافة، من منطلق أن حجة المهاجرين على الأنصار هي حجته على الجميع، فقد كان مما قاله أبو بكر للأنصار فيها "إن قريشا أحق الناس بهذا الأمر من بعد الرسول لا ينازعهم ذلك إلا ظالم، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء" ، وكذلك قال عمر لمن اقترح تعيين أمير من المهاجرين وأمير من الأنصار "هيهات لا يجتمع اثنان في قرن، والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا تمتنع أن تولى أمورها من كانت النبوة فيهم، ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين" ، فهكذا جعل الشيخان حجتهما لأحقية المهاجرين بالخلافة أنهم عشيرة الرسول، فكان علي يرى أن أقرب قريش للنبي هم بنو هاشم، وأقرب الهاشميين له بنو عبد المطلب، وأقربهم به صلة وأسبقهم للإسلام وأكثرهم بلاء فيه هو علي، وقد وافقه في هذا أبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي والمقداد بن عمرو وعمار بن ياسر ، لهذا سماهم الشيعة بالأركان الأربعة. من وجهة نظر مغايرة، رأى أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما كفوان لعلي في الفضل والسابقة، وهما بعد ذلك أسن منه، لذلك فهما الأولى بالخلافة. وهكذا كان لكل فريق رأي ولكل رأي وجاهته، لكن هذا لا ينفي أن عليا قد قبل بواقع الأمر حرصا على وحدة الصف، وسدا لذرائع الفتنة، واحتراما لرأي الأغلبية التي بايعت.
سألته عن تأخر بيعة علي للصديق ، فأجاب بأنه تأخر احتراما لمشاعر زوجته فاطمة، والتي غضبت من الخليفة بسبب أرض فدك، ودليل ذلك أنه بايع بعد وفاتها، ثم تكرر الموقف مع استخلاف أبي بكر لعمر، فاعترض الإمام على مبدأ الاستخلاف من سابق للاحق لأن رسول الله لم يستخلف، بل ترك الأمر شورى بين الناس، لكنه لم يعترض على شخص الفاروق بالطبع، ولم يصل الخلاف لحد التنافر والتخاصم، بل كان الإمام للفاروق خير ناصح أمين، ولم يغمطه الفاروق فضله، وهناك واقعة رواها بعض المؤرخين ، فحواها أن أبا بكر ندب عمر بن الخطاب لتفقد الغائبين عن بيعته وأولهم علي، فما كان من عمر إلا أن توجه لبيت الإمام والزهراء في جمع من الصحابة، وخير عليا بين الدخول فيما دخل فيه الناس (أي بيعة الصديق) أو يحرق عليه بيته بمن فيه، وهي رواية شديدة التهافت، فالزهراء كانت في هذا البيت الذي تدعي الرواية أن عمرا هدد بحرقه، فهل يحرق عمر بيت ابنة الرسول فوق رأسها؟ وفضلا عن هذا، فمجرد التهديد بحرق بيت فيه فاطمة عشية موت أبيها كان كفيلا بإثارة فتنة تنهدم لها أركان الدولة، فما كان عمر ليفكر في أمر كهذا فضلا عن التهديد به، كما أن العلاقة الوطيدة بين عمر وعلي لاحقا لا تتفق مع الخبر، وحسبنا من هذا رثاء علي لعمر بعبارة جامعة مانعة، قال فيها "لله بلاء عمر، فقد قوَّم الأود وداوى العمد، وأقام السنة وخلف الفتنة، ذهب نقي الثوب قليل العيب، أصاب خيرها وسبق شرها، أدى إلى الله طاعته واتقاه بحقه، ثم رحل وتركهم في طرق متشعبة، لا يهتدي فيها الضال ولا يستيقنُ المهتدي" .
"وعلى هذا فأنت ترى رواية التحريق مكذوبة؟"
"مبالغ فيها، ربما زار عمر عليا في بيته واشتد عليه في اللوم لتأخر بيعته لأبي بكر حرصا على وحدة الأمة، أما الباقي فمبالغات تهدف لتشويه صورة الفاروق،
لكنها في الواقع تشوه عمرا وعليا معا، ففارس عدنان لن يهدد بحرق بيته
&&&**&&&**
تجدونها بالمكتبات