دراسة نقدية لرواية "عُرس الزين"
تتحرك شخوص رواية "عُرس الزين" وأحداثها على خلفية من وقائع الحياة اليومية الفردية والاجتماعية للبيئة المحلية في الشمال السوداني في المرحلة المعاصرة لصدور الرواية حيث يمكن رصد بعض ملامح الشخصية السودانية التقليدية التي تتبلور كنتاج طبيعي للالتقاء بين الخصوبة المترع بها وادي النيل والجدب الضارب في الصحراء الرابضة على أطراف الوادي وبين الإثنية العربية والإفريقية وبين البداوة والحضر بكل مايحمله هذا الالتقاء من تضاد شكّل نواة التجربة الشعورية للمؤلف التي عبر عنها من خلال مجموعة من الصور التعبيرية النابضة بالحياة والمفعمة بالصدق الفني وبالمعاناة الإبداعية التي تفسر لنا السبب الحقيقي للتواضع الكمي للأعمال الأدبية التي أنتجها الطيب صالح طوال رحلة حياته التي استغرقت ثمانين عاما ، فهو يبدو في عمله أشبه بصانع لقطعة متفردة من النسيج الشرقي الثمين التي تخرج من تحت يديه بعد جهد جهيد كنسخة نادرة غير قابلة للتكرار والتي تخصم من طاقته بمقدار إتقانه لها والتي تتضاعف قيمتها بمرور الزمن .
والمؤلف إذ يستوحي الحياة اليومية بتفاصيلها الدقيقة مسلطاً الضوء على الطبقات الدنيا والمهمشة كمجال يحرك فيه شخصياته إنما يضع روايته في مصاف الروايات الواقعية التي كانت في ذلك الوقت قد بلغت أوج مجدها في مجال الأدب العربي خاصة بعد صدور ثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة – بين القصرين ، قصر الشوق ، السكرية – قبل صدور عرس الزين بنحو خمسة أعوام ، لكن الطيب صالح لم يقف بروايته عند حدود التيار الواقعي التقليدي وإنما تخطاه ليقدم إرهاصة مبكرة لسطوة الواقعية الجديدة أو دعنا نقول إنها احتجاج جنوبي مبكر على تلك الهيمنة الفكرية التي مارسها الشمال طويلاً باسم تقديس العقل وازدراء الغيبيات ..
ذلك انه منذ نشأ في أوروبا مااصطلح الغرب – كبراً واستعلاء – واعتاد الشرق – هزيمة وانكساراً – على تسميته بعصر التنوير وأصحاب المناهج النقدية يمارسون نوعاً من الإرهاب الفكري على المبدعين الذين حاولوا الخروج من دائرة المعقول إلى اللامعقول أو إلى الخفي الذي يستشعرون وجوده في منطقة ما غير مرئية ويحاولون التعبير عنه في تجاربهم الإبداعية ، فاعتاد أولئك طويلاً ازدراء هذه التجارب واعتبارها من قبيل الأعمال السطحية الشبيهة بالملاحم القديمة التي تحتفي بعوالم وبقوى غيبية لاوجود لها في الواقع ، إلا انه مع الطفرة العلمية الكبيرة التي تحققت في القرن العشرين بدا واضحاً عجز العلماء عن تفسير العديد من الظواهر الغيبية التي اكتسبت إزاء ذلك العجز مزيداً من الرهبة والغموض ومزيداً بالتالي من الجاذبية مما انعكس على الأعمال الإبداعية التي بدأ ظهورها في عالم كان يعاني في ذلك الوقت من التهميش ومن مأزق الهوية ومن الثورة على انفراد الذهنية الأوروبية بتقرير مايجوز ومالا يجوز ، وأقصد به العالم الثالث وتحديداً دول أمريكا اللاتينية التي نشأت بها ظاهرة أدبية جديدة مزجت بين التصوير الواقعي والفانتازيا الخرافية بدأت بتجارب متعددة تبلورت في خمسينات القرن العشرين حتى بلغت اكتمال نضجها وذروة فتنتها عام 1967 بصدور الرواية المعجزة "مائة عام من العزلة" لأديب نوبل الكولومبي جابرييل جارسيا ماركيز التي أطلقت حزمة من الاشعاعات الإبداعية الكونية دفعت بأدب أمريكا اللاتينية إلى قمة الأدب العالمي لسنوات طويلة – لاحظ أن عُرس الزين صدرت قبل مائة عام من العزلة بسنوات – ووطدت أركان ما أطلق عليه أليخو كاربنتيير "الواقعية السحرية" التي قدمت إضافة إلى ماركيز موجات متلاحقة ومتباينة من الرموز ومن الأعمال الإبداعية الساحرة والمتفردة مثل : "بيت الأرواح" للتشيلية ايزابيل الليندي ، "الخيميائي" للبرازيلي باولو كويللو ، "الغليان" للمكسيكية لاورا إسكيبيل ، وغير ذلك كثير ...
تتميز الواقعية السحرية بأنها تجمع بين عنصرين : الواقعي والسحري أو العجائبي فهي لاتنتمي بحال إلى عالم السريالية الذي يتحرر فيه المبدع كلية من قيود الواقع لكنها تظل محكومة بواقع ما ومشدودة إليه ، ومن خلال رصد مجموعة التجارب الأدبية المنتمية للواقعية السحرية يمكننا القول أن هناك سر ما مخبوء في الواقع يتمكن المبدع بما أوتي من رهافة حس من معاينته ثم نقل الاحساس به عبر العمل الأدبي دونما حاجة إلى شرح أو تبرير ، وقد يكون هذا السر مرتبطاً بالأديب ذاته الذي يتصور أن هناك أرواحاً توحي إليه بما يكتب – كما قالت إيزابيل الليندي عن نفسها يوماً – أو قد يكون مرتبطاً بالبيئة الواقعية التي تتحرك فيها الأحداث وهو ما قد يفسر سبب نشأة هذا اللون من الواقعية في البيئة الجنوبية المترعة بالأسرار التي لم تكتشف بعد والمسكونة بهاجس الهوية ، وذلك مايجعلنا نضيف بثقة إلى أسماء من ذكرناهم من رواد الواقعية السحرية في أمريكا اللاتينية أسماء كبيرة – من جنوب الوادي – أبرزها الطيب صالح وابراهيم اسحق الذي قدمت روايته الأولى "حدث في القرية" الصادرة عام 1969 الواقع السحري والساحر للقرية الدارفورية غرب السودان ، ومن هنا كان في إمكاننا ونحن نتحدث عن "عُرس الزين" أن نقول انها كانت إرهاصة مبكرة لذاك النوع من الاحتجاج الجنوبي المتمثل في سحر الواقع ...
تحفل الرواية بالعديد من الظواهر العجائبية المعارضة للقوانين الطبيعية والتي تتعانق بتلقائية مع الواقع فتبدو رغم غرابتها جزءاً لايتجزأ منه يؤثر فيه ويعدّل من مساره دون محاولات العقلنة والتبرير التي تميز الواقعية التقليدية ودون انفصال عن الواقع أو خدش له كما يفعل السرياليون :
* بداية مما ترويه أم الزين والنساء اللاتي حضرن ولادته من أنه انفجر ضاحكاً عند ولادته وأنه (لما كان في السادسة ذهبت به يوماً لزيارة قريبات لها فمرا عند مغيب الشمس على خرابة يشاع أنها مسكونة وفجأة تسمر الزين مكانه وأخذ يرتجف كمن به حمى ثم صرخ ، وبعدها لزم الفراش أياماً ولما قام من مرضه كانت أسنانه جميعاً قد سقطت) ..
* مروراً بتلك القوة الخارقة غير الطبيعية الساكنة جسده النحيل (انهم يرتعدون روعاً كلما ذكروا أن الزين أمسك مرة بقرني ثور جامح استفزه في الحقل ، أمسك به من قرنيه ورفعه عن الأرض كأنه حزمة قش وطوح به ثم ألقاه أرضاً مهشم العظام ، وكيف أنه مرة في فورة من فورات حماسه قلع شجرة سنط من جذورها وكأنها عود ذرة ، كلهم يعلم أن في هذا الجسم الضاوي قوة خارقة ليست في مقدور بشر) ..
* وصولاً إلى المعجزات التي تحققت على يدي الولي الحنين والتي يعجز الواقع بقوانينه الطبيعية أن يفسرها : فسيف الدين يرى الموت بعينيه حين يطبق الزين قبضته على عنقه خلال مشاجرتهما ثم يحيا ثانية بمجرد وصول الولي الحنين (ويذكرون في عجب كيف أن الحنين هل عليهم من حيث لايعلمون ، في اللحظة ، عين اللحظة ليس قبل ولابعد ، حين ضاقت قبضة الزين على خناق سيف الدين وكادت تودي به ، بل إن بعضهم يجزم أن سيف الدين قد مات بالفعل ، لفظ نفسه الأخير ووقع على الأرض جثة هامدة ، وسيف الدين نفسه يؤكد هذا الزعم ، يقول انه مات بالفعل ، وفي اللحظة التي ضاقت فيها قبضة الزين على حلقه يقول انه غاب عن الدنيا البتة ورأى تمساحاً ضخماً في حجم الثور الكبير فاتحاً فمه وانطبق فكا التمساح عليه وجاءت موجة كبيرة كأنها الجبل فحملت التمساح في هوة سحيقة ليس لها قرار ، في هذا الوقت يقول سيف الدين انه رأى الموت وجهاً لوجه) ، وحياة أهل القرية تتغير كلية بمجرد دعوة الحنين لهم (بعد هذا الحادث بأعوام طويلة حين أصبح محجوب جداً لأحفاد كثيرين ، كذلك أصبح عبد الحفيظ والطاهر والرواسي والباقون ، وحين أصبح أحمد اسماعيل أباً وصارت بناته للزواج ، كان أهل البلد – وبينهم هؤلاء – يعودون بذاكرتهم إلى ذلك العام وإلى حادث الزين والحنين وسيف الدين الذي وقع أمام دكان سعيد ، الذين اشتركوا في ذلك الحادث يذكرونه برهبة وخشوع بما فيهم محجوب الذي لم يكن يأبه لشئ من قبل ، لقد تأثرت حياة كل واحد من أولئك الرجال الثمانية يستعيدون فيما بينهم آلاف المرات تفاصيل الحادث وفي كل مرة كانت الحقائق تتخذ وقعاً أكثر سحرا... وكان عبد الحفيظ وكان من أكثر الناس إيماناً بمعجزة الحنين كما تجلت في سيف الدين كلما سمع نبأ جديداً يسرع به إلى محجوب وكان معروفاً بجفائه لأهل الدين والنساك منهم بوجه خاص "معجزة يازول ، مافي اثنين ثلاثة" ، ويصمت محجوب وهو يحس في جوفه بذلك القلق الغامض الذي يساوره إزاء هذه الحالات "سيف الدين عزم على الحج تصدق بالله يازول ؟ تآمن والا ما تآمن ؟ معجزة يازول دون أدنى شك"... ولم يعد ثمة شك في ذهن أحد ، حتى محجوب ، وهم يرون المعجزة تلو المعجزة أن مرد ذلك كله أن الحنين قال لأولئك الرجال الثمانية أمام متجر سعيد ذات ليلة "ربنا يبارك فيكم ربنا يجعل البركة فيكم" ، كان الوقت قبيل صلاة العشاء بقليل وهو وقت يستجاب فيه الدعاء خاصة من أولياء الله الصالحين أمثال الحنين... وكأنما قوى خارقة في السماء قالت بصوت واحد "آمين" ، بعد ذلك توالت الخوارق معجزة تلو معجزة بشكل يأخذ باللب ، لم تر البلد في حياتها عاماً رخياً مباركاً مثل عام الحنين) .
تلك العجائبية في النص الروائي منحت بعداً جديداً لفكرة "التضاد" ليقابل بين المألوف وغير المألوف مثل : الوليد/ الضاحك ، الضامر/القوي ، وهو ماينتج عنه تلقائياً صيرورة غير المتوقع – زواج نعمة والزين – متوقعاً ، وإذا كانت العجائبية تكمن في سر أو في مجموعة من الأسرار غير القابلة للتفسير والتي ترتبط بشخصيتي الزين/ الحنين المتماهيتين خلال النص كما أشرنا سابقاً فإنه سيحق لنا أن نتساءل في دهشة عن السبب الذي من أجله وضع الطيب صالح إمام المسجد/السلفي في مقابلة مع الولي/الصوفي وكأنما أراد أن يوجد تفسيراً لما يستحيل أو لما لاينبغي تفسيره ...