ثمة أشياء لا يقدر المرء على تخيل دمشق بدونها، وتفقد بزوالها معنى فتنتها وبهائها، لا تستطيع أن تتصورها بدون حواريها القديمة أو بلا أبوابها السبعة، أو ياسمينها البهي والذي كان ماؤه عطر الدمشقيات الأثير.
ولا يجرؤ الخيال بقبول فكرة زوال مقاهيها من جنباتها وأزقتها وعلى رأسها مقهى النوفرة الدمشقي.
* أصالة لا تندثر
في مقهى النوفرة تشف النفس، وتصبح الروح أكثر رقة، عابقة بسحر المكان الذي يطبع رواده بأصالته، ويأسرهم بحميميته وعراقة قداسته، وليأخذ بعضاً من عصريتهم وحداثتهم.
يعود المقهى في بنائه إلى ما قبل قرنين ونصف من السنوات، ورواده حتى وقت قريب كانوا من الرجال كبار السن، غير أن تردد المجموعات السياحية من رجال ونساء، وشباب وشابات، وارتياحهم لاجواء دمشق القديمة ونمط عمارتها، غيّر من أجواء المقهى، وصار بإمكان الصبايا والفتيان من أبناء البلد الجلوس فيه وتناول المشروبات وتدخين النراجيل.
ويعتبر ارتياد الفتاة للمقهى أبلغ تغيير عليه، فهي لم تكن لتتجرأ منذ وقت قريب على المرور من أمامه.
ولكنها الآن تجلس فيه حتى ساعات متأخرة من الليل تشرب الشاي وتدخن النرجيلة.
تقول سلوى، وهي خريجة جامعية في مقتبل العمر: "اشعر بسعادة بالغة عند ارتياد المقهى ومعانقة النرجيلة، التي هي طبعاً مضرة بالصحة، ولكن لا أستطيع أن أخفي غبطتي بمتعة المساواة مع الرجل في هذا الجانب!!".
أما أبو جلال نادل المقهي فلا يعجبه هذا الحال، ويعتبر وجود الجنس اللطيف في حنايا المقهى تصرفاً سيئاً ومزعجاً، يكسر حياد النساء وبعيد عن الأعراف والتقاليد.
* كان يا ما كان
وما يعطي المقهى نكهة محببة وجود الحكواتي، فرغم توافر وسائل الإعلام المتنوعة، وكثرة وسائل الترفيه، إلا أن هناك من يفضل الاستماع إلى حكايات أبو شادي.
وأبو شادي هو حكواتي المقهي ذو صوت أجش ودافئ يمسك بتلابيب السمع ليأخذك إلى دنيا الزير سالم وعالم عنترة بن شداد الأسطوري.
يقول أبو شادي: " عندما بدأت العمل لم يكن هناك من يروي القصص الشعبية في بلاد الشام، وفي عام 1990 كنت الحكواتي الوحيد في الشرق الأوسط".
ومن أيام جمهور أيام زمان يخبرنا أبو صالح بأنهم كانوا من كبار السن فقط، وكان المكان يخيم عليه الصمت والهدوء فور أن يباشر الحكواتي بسرد حكاياه وأخباره، لدرجة أنك تستطيع أن تسمع صوت الإبره إذا ألقيت.
وفي الماضي كانت تتلى القصص والحكايات دون الكتاب وبالاعتماد على جعبة الذاكرة. وأساليب التعبير سواء بنبرة الصوت وحركات اليدين وتعابير الوجه.
أما الآن، يضيف أبو صالح، فأحاول باستمرار استخدام طرق تأثير مختلفة لجذب انتباه الرواد، وأنا من خلال عملي أسعى جاهداً لحماية هذا التراث القيم من الفناء.
ويبقى مقهى النوفرة متأرجحاً بين المكان القادم من غياهب الماضي، والرواد الآتين من عصر السرعة، ويظل أحد الشواهد الصادقة على مدى التغييرات العميقة في حياة الناس وتقاليدهم.