السدود وخزّانات المياه في التراث العربي إبداع تقني رائع
بسم الله الرحمان الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين ، صلى الله عليه وسلم ، دانت له الفصاحة والبلاغة ، وعلى آله وأصحابه أعلام الهدى ومصابيح الدجى ، وشومس العلم والعرفان ونجوم الاهتداء لمن اقتدى .
أما بعد :
Highslide JS
تقديم :
إن من أهم الأمور المتميزة في عكس مقدار التطور والرقي في مجال المياه وسبل استغلالها هي بناء السدود وخزانات المياه ، فهي تحتاج إلى إمكانات فنية كبيرة تتناسب وحجم المشروع المنفذ ، وقد تميزت فيها شعوب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومنذ قديم الزمان، أي لفترة تعود لأكثر من عشرة آلاف سنة وخصوصاً في منطقة تل الصوان وديالي في وسط بلاد الرافدين، إلا أن هذه السدود والخزانات تباينت في حجمها ومقدار استيعابها للمياه وأهميتها على اختلاف مناطقها ، لكن شعب بلاد الرافدين بقي الأكثر تميزاً في هذا المجال على جميع شعوب المعمورة في تلك الحقبة الزمنية·
وقد جاء ذكر السدود وخزانات المياه في القرآن الكريم ، وتم تحديد اسم أهمها في مأرب (اليمن) وهو سد العرم الذي جاء ذكره في الكتاب العزيز ليعبر عن أحد الإنجازات العظيمة التي أقامها الإنسان على الأرض ، وعلى الرغم من ذلك لم يتمكن الإنسان في المحافظة عليه بعد أن نسي ذكر اللّه والتفكر بعظمته ·
السدود وخزانات المياه قبل الميلاد :
هناك الكثير من المؤشرات والإشارات إلى إمكانات بناء السدود وخزانات المياه منذ آلاف السنين قبل الميلاد إلا أنها لم تكن بالحجم والأهمية الكبيرة في تلك الفترة، لذلك نجد أن الحفريات الآثارية تؤكد أن السدود وخزانات المياه الكبيرة التي على قدر كبير من الأهمية بدأت مع بداية الألفية الخامسة ، حيث بدأ الإبداع التقني في بناء السدود وخزانات المياه في هذه الألفية قبل الميلاد، علما أن المصادر لم تشر إلى سدود خزانات مياه في أرض المعمورة كما هي عليه في بلاد الرافدين، وخصوصاً في زمن سلالة لجش (لكش) في جنوب بلاد الرافدين فقد أقا م الملك "أيا ناتوم" أهم هذه المشاريع، ومن ثم حفر قناة يسيطر عليها سد يقع على خزان بلغ استيعابه من المياه نحو 17 مليون غالون من الماء(1) مستخدما في بنائه مواد رابطة (لملايين عدة من الطابوق المشوي) المقاوم للمياه والرطوبة فتؤمن صلابته ومقاومته لعوادي الزمن، وأن هذه المادة هي "القير" الذي كان يجلب من شمال بلاد الرافدين قرب الموصل حالياً، ومن غرب بلاد الرافدين عند مدينة هيت حاليا ، وكلتا المنطقتين معروفتان بوجود " القير " فيها منذ آلاف السنين، وقد بلغ مجموع الكميات المستخدمة من القير في بناء السد نحو 259 مترا مكعباً(2)، ولعل هذه الفترة شهدت بداية تكوُّن الأهوار في جنوب العراق بعد أن أقاموا هناك خزانا للمياه·
ولأسباب غير معروفة انهار السد الذي كان مقاما عليه ففقدوا السيطرة على المياه المتدفقة إليه لتتكون بدايات الأهوار هناك وخصوصاً أن هناك الكثير من النقوش السومرية والبابلية توضح عمليات صيد الأسماك في مناطق الأهوار مستخدمين الزوارق المصنوعة من القصب ، والقفف المصنوعة من أوراق النخيل وأعواد الصفصاف ، ولعلهم كانوا يستعملون "القير" أيضاً في طلاء هذه الوسائل لحمايتها من تسرب المياه إليها ، وأن هذه الوسائل ظلت مستخدمة في العراق حتى وقت قريب، فقد شاهدت القفف المصنوعة من أوراق النخيل وعيدان الصفصاف والمطلية " بالقار" في بغداد وما جاورها من المدن والبلدات خلال السبعينيات من القرن العشرين الميلادي ·
كما حفر الملك " أنتميتا "من سلالة لجش أيضا- قناة طولها 140 كيلو مترا لنقل المياه من نهر دجلة، ثم أقام عليها سدا استخدم فيه نحو ثمانية ملايين طابوقة مشوية ونحو 265 متراً مكعباً من "القير (3)·"
أما في الألفية الرابعة قبل الميلاد أقيم أضخم مشروع إروائي في بلاد الرافدين حتى يومنا الحاضر وهو مشروع النهروان حيث كان يعتقد خطأ أنه يعود لفترة ما قبل الإسلام(4)، لقد كان هذا المشروع يتكون من قناة لنقل المياه طولها عشرات من الكيلو مترات أقيم عليها سد يؤدي إلى خزان ضخم يتسع لعشرات الملايين من الأمتار المكعبة لتخزين المياه وتوزيعها على الأراضي الزراعية التي تنتشر إلى مسافات شاسعة لغرض ري المزروعات خلال أوقات شحة المياه أو في المواسم التي لا تسقط فيها الأمطار·
وفي الألفية الثالثة تم تنفيذ مشاريع إروائية عدة في بلاد الرافدين ، أهمها المشروع الذي أقامه ملك بلاد الرافدين البابلي خلال القرن الثالث من الألفية الثانية ، ويتكون من قناة حُفرت ، وقد تجاوز طولها عشرات من الكيلو مترات بين مدينتي " أريدو وأور " سماها عطاء الشعب ، وأقام عليها سدا لتنظيم أنسياب المياه وتوزيعها على مجموعة من مئات القرى تتبع عددا من المدن المهمة التي تتوافر فيها مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية(5)·
كما تمكن البابليون من ضبط فيضان نهر الفرات بإقامة السدود عليه مع استخدام منخفض "الحبانية وأبي دبس" لتصريف مياه النهر خلال مواسم الفيضانات ، وفي الوقت عينه استخدم هذان المنخفضان كخزانين لمياه النهر خلال مواسم الفيضانات ، كما استخدم هذان المنخفضان كخزانين للمياه·
أما على نهر دجلة فقد أقام الآشوريون أضخم سد هو سد "نمرود" الذي أقيم في رأس الدلتا لتموين حوض "الناروان" ويعتقد اسمه النهروان حاليا- والواقع في الجانب الأيسر من النهر ، وكذلك لتموين جدولين يعرفان في الوقت الحاضر باسم " الدجيل والإسحاق " في جانبه الأيمن، وهذا يؤكد أن هذا المشروع قد تم إحياؤه على فترات زمنية مختلفة على مر العصور ، وبخاصة أيام الحكم العباسي ، حيث استخدمت هذه التسميات منذ العصر العباسي ، وسنوضح ذلك لاحقا ·
أما الألفية الأولى قبل الميلاد فقد تميزت بانتشار السدود وخزانات المياه الضخمة وتعددها في بلاد الرافدين ، وأهمها ما أقامه الملك "سنحاريب" في شمال البلاد ، حيث حفرت قناة يبلغ طولها نحو 70 كيلو متر لتوصل المياه من المناطق الجبلية إلى مدينة "نينوي" ومزارعها ، وأقام عليها سدا لينظم مياه القناة والسيطرة عليها ، وقد استخدم في هذا السد نحو مليوني حجر مكعبة الشكل ، طول ضلع الواحدة منها نصف متر ، وتزن الواحدة ربع طن(6) .
كما قام الملك بحفر قنوات ذات سعات متباينة لجلب مياه العيون والأمطار من الجبال إلى مدينة "أربيل (7)" التي مازال اسمها يعرف باسم "أربيل" ولعل اسمها كان أيام العهد البابلي والآشوري " أربلا وأربل " وهي مدينة أقيمت على أطلال قلعة بنيت لأغراض عسكرية في بادىء الأمر أيام الحكم البابلي ثم زادوا تحصيناتها ووسعوها أيام الحكم الآشوري أو ربما قبل ذلك، ومن ثم أصبحت مدينة عامرة منذ أيام الحكم العباسي وحتى يومنا هذا إلا أن مساحتها تضاعفت أكثر، ولابد أنه في عهد "سنحاريب" تم بناء سدود على كل قناة يتناسب وحجم القناة ليؤدي إلى خزان لجمع تلك المياه الواردة من القنوات المختلفة السالفة الذكر ·
وخلال فترة حكم "نبوخذ نصر" في وسط بلاد الرافدين أقام مشاريع إروائية عدة ، منها السد الذي أقامه على نهر دجلة (عند جانب الكرخ من بغداد حاليا ، وما زالت بقاياه موجودة في الموقع عينه حتى الآن)، ولعل هذا السد الذي كان قائما هناك قبل عهد " نبو خذ نصر" قام على صيانته وترميمه الملك المذكور، وذلك لتحويل جزء من مياه النهر إلى قناة تقع على الجانب الغربي منه ، حيث المساحات الزراعية الشاسعة، كما شق نهراً سمي نهر "ملكا"ولعلهم يقصدون نهر الملك ، وأقاموا عليه سدا له بوابات تتحكم في مرور المياه وتوزيعها ، وتؤدي إلى خزان ضخم للمياه قدر محيطه بنحو أربعين فرسخا أي ما يعادل نحو 200 كيلو متر، وبعمق 35 متراً(
.
وهنا يجب ألا يغيب عن بالنا ما قام به أهل "سبأ" من منجزات في هذا المجال وبخاصة إنجاز ملكهم "المركب يشع" الذي حفر الكثير من قنوات المياه ، وأنشأ السدود التي أقامها عليها ، وأهمها " سد مقران " الذي أوصل المياه عبر قناة إلى منطقة "أبين" و"سد " و "يثعان " وغيرها، وأهم هذه السدود سد " مأرب " وهو موجود في وادي " ذنه " الذي تقع مدينة مأرب عند حافته الشمالية ، حيث يقع بالقرب منها جبل "بلق" الذي يشقه وادي "ذنه" إلى نصفين هما "بلق" الأيمن و"بلق" الأيسر، فأقام "المأربيون" سداً عظيماً في مقدم الوادي لحجز مياه السيول الواردة من أعالي الجبال المحيطة بالوادي المؤدي إلى منخفض عظيم ، حيث استخدم لتخزين المياه خلال موسم الأمطار(9)، ثم تهدم هذا السد بسب السيول العظيمة التي جاء ذكرها في القرآن الكريم باسم سيل "العرم"، ولعل تراكم الطمي في منخفضه مع تصدع السد على مر السنين التي تجاوزت قروناً عدة ، حيث كان الملوك العرب قديما يعملون على صيانته وترميمه وتعليته ، ولعل آخرهم ملوك اليمن " شرحبيل يعفر " الذي حكم اليمن خلال القرن الخامس الميلادي أهمل جميع هذه الأمور وغيرها ما أضعف السد ، وأدى إلى انهياره ·
السدود وخزانات المياه قبل الإسلام (بعد الميلاد) :
إن الآثاريين أكدوا وجود الكثير من خزانات المياه مثل منخفض "الثرثار والحبانية والرزازة وساوة وبحر النجف" ، وقد استخدمت هذه كخزانات للمياه في عهود مختلفة من الزمن، إلا أن المصادر لم تساعدنا في تحديد الفترات الزمنية التي نفذت خلالها هذه الأعمال بدقة، وكذلك نسب بعض "منخفض الثرثار" مثلا إلى فترة حكم الحضر في بلاد الرافدين(10)، ولكننا لم نتمكن من التأكد من صحة هذه المعلومات لضعف الأدلة التي أشاروا إليها، فإنه من الممكن أن تعود هذه المنجزات إلى فترات زمنية أقدم ، ثم أعيد ترميمها وصيانتها خلال فترات زمنية لاحقة، كما ذكرت بعض المصادر أن أهل الحيرة في بلاد الرافدين استغلوا منخفض بحر النجف في إقامة مشاريع إروائية لتخزين المياه، إلا أنها غير واضحة المعالم والتفاصيل، ولعل أهل الرافدين استخدموا هذا المنخفض لتخزين المياه بغية الاستفادة منها عند شحة المياه ، أو لاستخدامها في غير مواسم الأمطار قبل هذه الفترة الزمنية بكثير، أي منذ فترات ربما تعود إلى الفترة البابلية المتأخرة..
ولعل هذه الفترة شهدت تكَّون الأهوار بمساحاتها الشاسعة حاليا في جنوب العراق نتيجة الفيضانات المتتالية على مر السنين ، بعد أن انهارت الكثير من المشاريع الإروائية والسدود المقامة على خزانات المياه هناك ·
مثل هذه الأعمال لم تكن مقتصرة على أهل بلاد الرافدين فقط في تلك الفترات الزمنية، ومن ثم نجد أن عرب الجزيرة قاموا بمشاريع مهمة في التخزين والسيطرة على مياه الينابيع المنبثقة من سطح الأرض والآبار الغنية بالمياه الجوفية وحسن استغلالها داخل صهاريج صخرية وكهوف تحت سطح الأرض ، من دون أن تتعرض لتأثيرات أشعة الشمس وحركة الرياح ، وفي الوقت عينه لا ندري كيف كانوا يحافظون على هذه المياه من العفونة والتلوث، وهي ما زالت شاخصة للعيان وخصوصاً في منطقة "كندة" في شمال الجزيرة العربية ، وتدمر في بادية سوريا ، والبتراء في بادية الأردن ، والأغوار والنقب في جنوب فلسطين ومنطقة الحميريين في اليمن(11)·
وقد أثبتت الاستكشافات الحديثة في جنوب الجزيرة العربية في حضرموت وأرض عاد (منطقة الربع الخالي) أنهم استخدموا في هذه المناطق الصهاريج الصخرية تحت الأرض أيضا لتخزين المياه ، ولعلهم استخدموا الأفلاج لسقاية مدنهم وبلداتهم لري مزروعاتهم أيضا ·
السدود وخزانات المياه في ظل الإسلام :
بعد الفتوحات العربية والإسلامية وحروب التحرير التي طالت كل الجزيرة العربية وشمالها في بلاد فارس وبلاد الرافدين وبلاد الشام وصولا إلى بلاد النيل ، أصبح أمام العرب والمسلمين مهام جديدة لإرجاع البلدان التي حرروها من ويلات الكفر والشرك وإفقار الشعوب ، فقد حولوها إلى رقيها الزراعي الذي بلا شك يتطلب إعادة تخطيط وإنشاء المشاريع الإروائية ، وبخاصة السدود والخزانات التي يرجع الكثير منها إلى عهود أسلافهم التي أهملوها فآلت إلى الخراب أو أن أسلافهم دمروها في أثناء الحروب التي خاضوها ضد المسلمين، وهذا ما فعلته جيوش كسرى في العراق(12) قبل معركة لقادسية وخلالها، وجيوش الروم في بلاد الشام(13) قبل معركة اليرموك وخلالها·
علما أن القرآن الكريم أكد في أكثر من سورة على أهمية الزراعة والمياه بالنسبة لخلقه في تأمين غذائهم، فعلى سبيل المثال جاء في سورة ق (الآية 6) قوله تعالى " والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج· تبصرة وذكرى لكل عبد منيب· ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد· والنخل باسقات لها طلع نضيد· رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج"(ق: 7-11 ·( صدق اللّه العظيم..
ولذلك ازداد اهتمام العرب والمسلمين في هذه المجالات تحقيقا لامتداد جيوشهم وشعوبهم والشعوب الأخرى التي دخلت الإسلام لأمنهم المائي والغذائي ·
فعلى سبيل المثال ذكر "البلاذري" في كتابه "فتوح البلدان" أن مجموع مساحة أراضي السواد التي خضعت للخراج في زمن الخليفة الراشد "عمربن الخطاب" خلال الفترة 13-23 هجرية، قد بلغت 36 مليون جريب أي ما يساوي نحو خمسين ألف كيلو متر مربع·
وهذه المساحة تساوي ثلثي مساحة الدلتا ما بين نهري دجلة والفرات الصالحة للزراعة، ونحو ثمن مساحة العراق الإجمالية في الوقت الحاضر ، وهذه المساحة وغيرها كانت تتطلب كميات كبيرة جدا من المياه السطحية لاستزراعها، أي كان لابد أن يعيدو ا المشاريع الإروائية إلى أفضل مما كانت عليه لضمان الغذاء ليس لجيشهم وشعبهم فقط بل للشعوب المحررة أيضا قدر المستطاع، وعلى الرغم من أن ما فعلوه في تلك المرحلة ليس بالشيء الكبير ، حيث كانوا مازالوا منشغلين بحروب التحرير والفتوحات الإسلامية حتى ذلك الوقت، إلا أنهم تمكنوا من مسح سقي الفرات من قبل "عثمان بن حنيف" أيام الخليفة "عمر" والمتولي لمساحة سقي دجلة هو "حذيفة بن اليمان" والقناطر المعروفة بقناطر "حذيفة" وإليه نسبت(14).
لذلك نجدهم بعد فترة حكم الخلفاء الراشدين كان العرب والمسلمون أكثر اهتماما في هذه المجالات ؛ مما جعل أعمالهم أكثر وضوحا ونضجاً· فخلال حكم الدولة الأموية أنشئوا السدود وخزانات المياه في الكوفة ، واستخدموا بحر النجف لهذا الغرض لتخفيف وطأة الفيضانات، وسعى "عبد الملك بن مروان" لإحصاء كميات الأمطار بالأمكانات المتاحة لديهم في ذلك الوقت، فقد بدأ في تلك الفترة بداية الاهتمام بالأنواء عن العرب والمسلمين، كما عمل "الحجاج" والي العراق على إقامة السدود لتجفيف البطائح (المقصود بها الأهوار) وإعمار شمال مدينة البصرة ، وبمساحة نحو مئة ألف دونم(15) .
ومن أهم السدود التي أنشأها الأمويون هو سد "خربقة" مع خزان ضخم لتخزين وجمع المياه وتوزيعها، وقد كان هذا السد والخزان يقع على الطريق المؤدية من مدينة دمشق إلى مدينة تدمر ، ويبدو أن العرب والمسلمين أعادوا إنشاء هذه المدينة بعد أن أصبحت أطلالاً في القرون الخوالي، والجميل في الأمر أن الأمويين استخدموا الأقنية الخزفية وشبكة ري حجرية في توزيع المياه هناك(16) .
إلا أن التطور في مجال إقامة السدود وخزانات المياه وصل إلى مرحلة كبيرة من التطور في العصور العباسية الأولى، وهذا ما جعل الخبير البريطاني "وليم ويلكوكس" يذكر في كتاباته عن تطور الري في العراق أيام الخلفاء العباسيين فذكر أنها تشبه ما أقامه الأميركيون والإستراليون من مشاريع الري في القرن العشرين الميلادي(17) .
لقد عمل العباسيون على التوسع الزراعي لزراعة جميع المساحة المتاحة في العراق بخاصة والولايات المختلفة الأخرى بعامة، إلا أن ذلك تطلب منظومة من الشبكات الإروائية والسدود التي تضمن زراعة تلك المساحة من خلال تأمين كميات المياه اللازمة لذلك ، فقد عمل الخليفة العباسي "أبو جعفر المنصور" على تنظيم وسائل الإرواء بغية الاستفادة القصوى من كميات المياه المتاحة، وذلك بإقامة السدود على نهر الفرات للسيطرة على مياهه ثم توزيعها على جداول وقنوات لتحقيق الاستفادة القصوى من النهر، فتمكنوا من زراعة وإرواء جميع الأراضي الممتدة من شمال الصحراء الغربية ، وحتى منطقة الجبال في شمال بلاد الرافدين وصولا إلى شواطئ الخليج العربي جنوبا ·
كما أنهم أقاموا سدين في شمال غرب بغداد ليتوزع منهما نهران ، هما نهر "الدجيل" الذي جعلوا له قنوات تنفذ في الشوارع والدروب لإيصال المياه إليها صيفاً وشتاء(18) ونهر "كرخايا" لسقاية البساتين هناك، وفي أطراف بغداد أقاموا سدين للسيطرة على مياه نهري "القلائين والبزازين" اللذين تم تنفيذهما لسقاية بساتين هذه العاصمة(19)، وكذلك أقاموا سدا على نهر "عيسى" وعملوا عليه سدا آخر ليتفرع عنه نهر "الصراة" مارا بمنخفض "عقرقوف" ثم أقاموا سدا آخر ليتفرع عنه نهر "الخر" وهو معروف اليوم باسم نهر "الخير" وقد طمر لاحقا، ومع اتساع حجم خزانات المياه والسدود التي سيطروا على مياهها ونظموا تدفقها جعلوا لها ديوانا سموه ديوان الأقرحة (يقصد به ديوان الماء)(20) .
ومن الأنهار العظيمة التي شقها العباسيون نهر "النهروان" الذي عملوا له سدا عند الجهة الشرقية لنهر دجلة جنوب بلدة الموصل ليمتد النهر 150 ميلاً شمال بغداد ، ثم يمتد من العاصمة العباسية جنوبا ولمسافة 100 ميل حتى شمال مدينة واسط(21) .
علما أن هناك محاولات أخرى نفذت في مواقع أخرى أيام الدولة العباسية، كالسد الذي اقترحه وحاول تنفيذه "الحسن بن الهيثم" على نهر النيل في مصر* إلا انه لم يفلح ولم نتمكن من معرفة الأسباب وراء ذلك، مع ا لعلم أن هناك العديد من العرب والمسلمين الذين أبدعوا في هذا المجال منهم أبناء موسى بن شاكر" (22) "والمهيمن قيصر بن أبي القاسمين وعبد الغني بن مسافر" (23)·
كما أن العرب والمسلمين في الأندلس أبدعوا أيضا في مجال السدود، فقد أوضح المؤرخ "سديو" واصفا مهارتهم في ذلك نقلا عن مجلة نور الإسلام فقال عنهم: وأبدعوا في الري أيما إبداع ويدل عليه ما فعلوه في "سهل هوسط" الذي يقسمه "نهر طونة" إلى قسمين فإنهم وقفوا تيار هذا النهر على بعد فرسخين من مصبه بوساطة سد، ثم اشتقوا منه سبعة جداول ثم عمدوا الى كل جدول من هذه الجداول السبعة فاشتقوا منه جداول ثانوية يفتح كل منها في ساعة معينة(24) .
وهنا علينا أن نتوقف قليلا ونتساءل، لماذا جعلوا لهذا النهر سبعة جداول ولكل جدول جداول ثانوية؟ فهل يا ترى جعلوها سبعة جداول على عدد أيام الأسبوع؟ وكم كان عدد هذه الجداول الثانوية؟، فإن كانت مؤلفة من جدولين أو ثلاثة أو أربعة أو أي عدد من الجداول الثانوية، فهذا يعني أنهم كانوا يسقون وفق جدول زمني أسبوعي، وإن كان يوم من أيام الأسبوع كان الري وفق جدول يومي على أساس عدد ساعات محددة، أي أن العرب والمسلمين في الأندلس كانوا في غاية الدقة في توزيع المياه والتصرف ·
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
1ـ الأحمد، سامي سعيد 1978 المدخل إلى تاريخ العالم القديم· بغداد، ج1 ص283 ·
2 ـ الأحمد، سامي سعيد 1984 حضارة العراق · بغداد، ج2ص177 ·
3 ـ المصدر نفسه والصفحة ·
4 ـ رشيد، فوزي 1986 أصالة نظم الإرواء العربية، محاضرات تراثية· بغداد، ص2 ·
5 ـ الأحمد 1984، ص186
6 ـ المصدر نفسه، ص180-181
7 ـ المصدر نفسه والصفحة ·
8 ـ نفس المصدر، ص 174
9 ـ بافقيه، محمد عبد القادر 1974 تاريخ اليمن القديم· بيروت، ص196 ·
10 ـ سفر، فؤاد ومحمد علي 1975 الحضر مدينة الشمس· بغداد، ص20 ·
11 ـ علي، جواد 1977 المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام· بيروت، ج2 ص510-529 ·
12 ـ قدامة بن جعفر، 1981 الخراج وصناعة الكتابة، تحقيق محمد حسين الزبيدي· بغداد، ص168 ·
13 ـ الحفيظ، عماد محمد ذياب 2002 دراسات عن الزراعة والمياه في أغوار الأردن· عمّان، ص19 ·
14 ـ قدامة بن جعفر، ص 368
15 ـ الصوفي، أحمد علي 1955 أرض السواد · بغداد، ص27 ·
16 ـ الخربوطلي، علي حسين 1959 تاريخ العراق في ظل الحكم الأموي · بغداد، ص18 ·
17 ـ ويلكوكس، وليم 1911، ري العراق، تقرير غير منشور · بغداد ·
18 ـ إبراهيم، حسن 1964 تاريخ الإسلام، القاهرة، ج 2 ص304
19 ـ الهاشمي، رضا جواد 1981 المقومات الاقتصادية لمجتمع الخليج العربي القديم مجلة النفط والتنمية، العدد 7 و 8 ص88 ·
20 ـ الحفيظ، عماد محمد ذياب 1989 أثر المشاريع الإروائية في النمو الحضاري العربي، ندوة الري عند العرب، جامعة بغداد، بغداد، ص92
21 ـ المصدر نفسه ص 92 -93
*راجع كتاب عادل أبو النصر 1960 تاريخ الزراعة القديمة، بيروت ·
22 ـ الطبري، أبو جعفر 1883 تاريخ الأمم والملوك · برلين، ج3 ص1747
23 ـ الدوميلي 1985 العلم عند العرب وأثره في تطور العلم العالمي، ترجمة عبد الحليم النجار ومحمد يوسف· بيروت، ص305-306
24 ـ الحفيظ 1989، ص93-94 ·.
::::::::::::::::::::::::
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشكر لك حسن متابعة الموضوع
والله لا يضيع أجر من عمل حسنا ،،/،،،