قديما قال أحد الصحابة لعمر رضي الله عنه : لو رتعت لرتعوا ، وكان رده المفحم ذات يوم على من سأله كيف لبس الثوب الطويل ، وما وزع على عوام المسلمين لا يكفي لصنع مثله ـ بأنه قد استسمح ابنه في نصيبه ..
أقول كان هذا الرد كفيل بأن يخجل كل من تسول له نفسه في أخذ ما لا يحل له من المال العام بأن يردع عن ذلك ..
ومن قبل نظر الصحابة رضوان الله عليهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدوه ينام على الحصير حتى أثر في عنقه ، رغم كثرة الأموال التي كانت ترد إليه من الغنائم ، حيث كان يقوم بتوزيعها جميعا ويقول : ليس لي إلا الخمس ، والخمس مردود عليكم ، وكانت النتيجة أن عفوا جميعا عن الحرام وأكله اقتداء بعفته .
والآن تختلس الأموال في بعض البلدان، وتنهب البنوك ، وتقتطع المساحات الشاسعة من الأراضي العامة المملوكة للدولة وتمنح لمن لا يستحقها ، وتحتكر الأقوات ؛ فينظر الناس من حولهم فيرون الكثيرين يتسارعون للرتع فيزاحموهم ..
ينظر الطبيب فيرى من سمي زورا وبهتانا بالفنان أ والمطرب أو النجم والكوكب أو البطل الكروي قد سكن القصور ، فيثار في نفسه : لمَ لا يكون مثله وقد تعب هو وجد وما زال يكد لجلب الشفاء للناس ؛ فيغالي في أجرته كي يجمع الآلاف والآلف كل يوم دون أن يسأل نفسه كيف يحضر المريض هذه الأموال ..
وينظر المدرس فيرى حقيرا وقد امتلك الكنوز فيثار في رأسه : ولماذا لا يكون مثله ، وقد سهر الليالي في تعلم العلم وتعليمه ،فيسارع بالاحتيال على الطلاب بدروسه الخصوصية ليجمع كل يوم المئات والمئات ، دون أن يفكر في حال المساكين من التلاميذ ..
وينظر الصانع فيرى من يأتون بالبضائع الصينية ليضيقوا عليه في رزقه فيسعى لغش صنعته والتدليس فيها لتساوي في مكسبها البضائع الصينية.
وينظر الموظف فيرى دخله أو راتبه لا يساوي شيئا بالنسبة لمن حوله فيسعى للرشوة بكل سبيل ..
وينظر العلماء التجريبيون فيرون أنفسهم وقد صاروا مثل من حاك أو حصا( عمل بالحياكة أو جمع الحصوات وبيعها ) في رزقه وسط مجتمع مادي فيفكرون في الهجرة إلى بلاد تبسط لهم في رزقهم ، وترفع من شأنهم ، وإن كانت عدوة لنا .
وينظر التاجر فيرى غيره قد كنز ما لم يكنزه قارون فتتوق نفسه للجشع ويحتال على احتكار كل احتياجات الناس الأساسية ولو كانت قوتا .
ويرى صاحب المنصب الرفيع من سبقه وقد جمع وكنز فيحتال بمنصبه في نهب أموال البلد أو منحها لمن يشاء من أقربائه ، والدخول في صفقات غير مباشرة ليستحوذ بها على ما يمكن أن يستحوذ عليه .
حتى الدعاة إلى الله سولت للكثير منهم وسط مجتمعات غلبها الجشع أن يطلب بعضهم بعمله ـ ولا أقول بعلمه فقط ـ حطام الدنيا ، رافضين الاقتداء بمعلمهم الأول صلى الله عليه وسلم في الرضا بما عند الله سبحانه وتعالى ، بعد أن صار المجتمع لا يقدر إلا صاحب المال ، فصار الكثير والكثير ـ عافانا الله ـ يصر على المطالبة بثمن ما ينشر من دروس يلقونها أو خطب يخطبونها ، تحت مسمى حقوق الملكية ، ولا عجب أن يقل صداها أو ينعدم نفعها مهما حرك الناس لهم الشفاه إعجابا بها ، وتوالت المدائح ثناء عليها ..
وأما من سخرو ا علمهم للوصول إلى أرقى المناصب وصاروا ينطقون فقط بما يرضي السلطان ـ وإن أغضب المولى سبحانه وتعالى ـ فحدث ولا حرج ..
وسيظل كل ما حولنا ساحة للرتع ، وستظل أحوال البلاد في تردي إلا إذا عف الكبراء واقتدوا بالنبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء المهديين من بعده .
