[img][/img]
صورة غلاف الرواية
رواية ليالي الرقص في الجزيرة
الجزء الأول "العبد"
محمد عبد الله الهادي
الهيئة المصرية العامة للكتاب
* *0 *
مدخل إلي الجــزيرة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
" إنّـه لمنظر بهيـج أن نرى النـيل يمـر فوق الحقول وتختفي الأرض المنخفضة ، وتقع الأودية الصغـيرة تحت سطح المـاء ، وتبرز المدن كالجُـزر ، ما من مواصـلات ممكنة عبـر هذا البحـر الداخلي إلاَّ بالقـوارب " .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
" أحـد الفلاسـفة "
مفتتـح
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طلب " العبـدُ " الإذن له من الشيخ " عوَّاد السوالمي" في الصعُود فوق سطح زريبته الواقعة خلف داره . آنئذ ، كان الليلُ القادم يهبط بهدوء ، ويتسلل بخفَّة في كل أرجاء الجزيرة . هرشَ الشيخ " عوَّاد " لحيته المشعَّثة بالسواد والبياض وأذن لـه ، بأن هزَّ رأسه من أعلى لأسفل علامة الموافقة . ومن تجويف بركن الحائط ، مدَّ الشيخُ يدَه ورفع البندقية " الميزر" وناولها إيَّـاه .
عندما كانت عينا " العبـد " تبرقان في العتمة ببريق السعادة ، وتبين أسنانه البيضاء ، كانتْ يداه تتحسسان البندقية ، وتختبران أجزاءها ، بشعور يمتزج فيه الإحساس بالخشوع والحب والظفر : بندقية الشيخ التي لا يأتمن عليها أحداً من أولاده الذين من صلبه ، هاهو يُعطيها لـه برضا ، مانحاً إيَّاه شهادة ثقة ، موقعاً عليها من كل أفراد السوالمة للقيام بالمهمة التي فشل في إنجازها الجميع من قبـل ..
كان " العبـدُ " يفكر بشرود عندما ألقى الشيخ في حِجره بأظرف الطلقات ..
طلع " العبدُ " ـ بعد أن شرب من يد الولد الأكبر القهوة المُرَّة عدّة مرّات ـ للسقف ، لبـد بين أكوام القش مقرفصاً وانتظر ، روَّض نفسه متحلياً بالصبر ، ومتدثراً بظلمة آخر الشهر العربي حالكة السواد . مرَّ الوقت بطيئاً وثقيلاً . لكنّه ظلَّ يقظاً ، لم يمنح أنجم الليل الساهرة معه الفرصة المواتية ، كي تأخذ نفسه للهواجس والأفكار ، أو تدع عقله يتشتتْ بين أمواج الظلام ، فتضيع الفرصة التي ينتظرها .
لم يعرف الوقت بالتحديد عندما رآها تتهادى في العتمة ، تقترب كتلتها الشبحية التي بلا معالم ، من جذع شجرة الكافور الطالعة بجوار حائط الزريبة ، نشَّن بدقّة قنَّاص ، ضغط بإصبعه الزناد ، وأطلق عليها عيارين متتاليين في لحظةٍ ، فأصابها في مقتل . ارتطمتْ بقوَّة بالجذع . سمعها تئن أنيناً مروعاً أفـزع الجزيرة وأيقظ ناسها . ظلَّت للحظات تترنح دائخةً تبحث عن صيَّادها الماكر ، تودُّ رؤيته فلم تره ، فقد كان " العبـدُ " والسقف بلون الليـل ..
أخيراً خـرَّتْ صريعةً فوق الأرض يتفجر منها الدم .
هذه اللبؤة التي دوَّختْ ناس الجزيرة لأشهر طوال ، وجعلتهم يرسلُون في أثرها فرسانهم يتعقبونها ، فلم يتمكنوا جميعاً منها ، وباءتْ محاولاتهم بالفشل المرَّة تلو الأخرى ، كانت قد افترستْ حتى لحظتها الأخيرة هذه ، من دواب السوالمة فقط : عشر عنزات وخروفين . هذا العام أطلقت عليه الجزيرة اسم : " عام اللبؤة " .
عام اللبؤة هذا كان عـاماً عظيمـاً :
تبرع فيه " صالح أبو جمعان " بنصف بيته الطيني للحكومة ، حيث وضعتْ علي بابه يافطة ، تقول بالخط الثـلث :
" مدرسة جزيرة مطاوع الابتدائية " ..
وكان شيئاً طريفاً ، وقتئـذ ، افتتاح هذه المدرسة ، ومن ثم رؤية تلاميذ الصف الأول وهم يحملون حقائبهم المدرسية ، المصنوعة علي شكل مخالي من الدمُّور تتدلََّى من أعناقهم ، وهي منتفخة بالكتب والكرَّاسات ، وقد نبتَ لمعظمهم شوارب زغبية صفراء تحت أنوفهم . كان الأمر مقبولاً بشكل عام ، فمن أجل استكمال الفصلين تم قيد جميع المتقدمين للالتحاق بالمدرسة ، وذلك بالتساهل مع مدَى صحَّة بيانات السن في شهادات التسنين ، التي اُستخرجتْ أيضاً علي عجل . بالطبع لم يكن الأمر غريباً فيما بعـد ، ولا حتى مثيراً للدهشة ، أن يكون لبعض هؤلاء التلاميذ زوجات ، ومن ثم أطفال رضَّع كنتيجة حتمية للزواج المبكر ، وذلك قبل أن يرتقوا للصف السادس في سلّم التعـليم .
أمَّا الحاج " عبد العزيز " الذي تمكن من جمع التبرعات الكافية لبناء جامع وسط البلـد ، تبرع أيضاً بنصف بيته الطيني للحكومة لافتتاح أول جمعية تعاونية زراعية ، عرفتْ الجزيرة مع افتتاحها أول مشرف زراعي لها ، هو الشاب الوسيم القادم من مدينة المنصورة : " طلعت عبد الحميد " . والجدير بالذكر أن عام اللبؤة كان أيضاً عاماً حزيناً :
لأن " مبروكة " اللبَّانة فقدتْ عقلها بكل أسف في عِز الصيف ، فلقد كانت تغسل أوانيها وقـت الظهر علي حافة ترعة " بهجت " بعيداً عن بيوت الجزيرة ، كان الطقس حاراً وخانقاً ، وقد أغراها ماء الترعة البارد ، وانقطاع الرجل الماشية وقت القيلولة علي الطريق بالنزول ، نزعتْ عنها ثوبها الخارجي واكتفت بقميصها الداخلي ونزلتْ حثيثاً للترعة ، ما أن غمرت بدنها بالماء بعد أن غطستْ وقبَّـت مرتين ، حتى أحسَّت بيد غريبة تتلمسها ، انتفض جسدها فزعاً ، وسمعتْ الصوت الذي يناديها من جوف الماء ، قذفتْ بدنها للشاطئ ، والجنيَّة الشريرة تناديها بصوتها الأجـش المبحوح ، المخيف ، اللحوح :
ـ " تعالي يا مبروكة .. تعالي يا حبيبتي " .
أسقط الخوف قلبها في قدميها فظلَّت تجري ، ثم تسقط أرضاً ، وتنهض مهرولة ثم تسقط ، وهكذا .. هامتْ المسكينةُ علي وجهها بالجزيرة وطار عقلها . وما زالتْ حتى الآن ، تتعثر أحياناً وتسقط ، أو تهبُّ لتجري بعيداً ، لأن الصوت الجنِّي الذي زلزل كيانها ، وأفـزع أمنها بماء الترعة ، مازال يلاحقها ، ويطن في أذنيها بالنـداء الذي يدعوها حتى الآن .
وكان عـام اللبؤة عـاماً لطيـفاً :
لأنه شهد مولد أول قاموس " بدوي / عربي " من رحم الجزيرة للكون ، ذلك القاموس الذي أنجزه معلمُو المدرسة من أبناء المدن ، عندما صعُب عليهم فهم ما يتفوّه به التلاميذ من كلمات أو عبارات باللهجة البدوية ، فلا يدركون مقاصدها أو دلالاتها . يقول الولد : " أرعِه " .. فيحار معلِّمه ابن المدينة فيما يقصده ، حتى يدرك بعد جهد واستقصاء أن " أرعِه " هذه معناها : انظر . أوعندما يسأل المعلم تلميذه عن كراسة الحساب ، ويردُّ الولد بكلمة : " ودَّرتها " ، وبعد البحث والتقصّي بالكلام والإشارة يدرك أنُّه فقدها وأضاعها .. ، وهكذا تنامت الصعوبة مع مرور الوقت ، حتى جاء وضع القاموس كحل عبقري لتسهيل عملية التواصل والتفاهم بين الطرفين .
الشيء العجيب الذي حدث فيما بعد ، أن هذا التواصل أخذ منحَى متطرفاً من الجانبين ، عندما أصرَّ المعلِّمُون علي التحدث باللهجة البدويَّة . في الوقت الذي كان فيه التلاميذ يلوُون ألسنتهم بكلمات أهل المدن ، فلا يعطِّشون الجيم أو ينطقون القاف همزة .
علي كل حال كان الأمر في النهاية مضحكاً للجميع .
وكان عـاماً جميـلاً :
لمَّا تشكلتْ في الجزيرة أول لجنة للاتحاد الاشتراكي العربي ، التي استهلتْ أول أعمالها ، بدعوة الناس للمشاركة في إصلاح وتمهيد الطريق الداخل للجزيرة من جهة فاقوس ، ذلك بعد أن وعـد " الخواجات " باستغلال إمكانياتهم ومعارفهم في التوسط لدى المسؤولين لأجل تسيير عربة أوتوبيس عليه . ولمَّا لم يستجب أي جزايرلي لهذه الدعوة الاشتراكية بكل أسف ، فكَّر أمين اللجنة ، وكان بحق رجلاً حصيفاً . أحضر طبالاً وزماراً في بكور صبح أحد الأيام علي قارعة الطريق . الشمس كانت مختبئة ولم تطلع بعـد ، عندما كان الطبَّال يدقُّ علي طبلته الكبيرة مشدودة الجلد : بوم .. بوم .. بوم .. ، والزمَّار يرفع بوق زمارته ناحية دور الجزيرة ، التي تفرك أجفانها بعد النعاس ، يناديها : طيط .. طوط .. طيط .. طوط .. ، وهكذا استمر الطبل يدق " بوم " والزمار يرد " طيط " ، حتى خرج أهل الجزيرة ـ بدافع الفضول ـ يستطلعون الأمر ، فألفـوا أنفسهم وجهاً لوجه مع الطريق الذي يدعوهم ، ويتوسل إليهم بالطبـل والمزمار .
هل خجلوا من تقاعسهم ؟هل أدركُوا مدى تقصيرهم أمام النظرات اللوَّامة لأعضاء اللجنة ؟ .. المهم ، أنهم في النهاية أحضروا فئوسهم ومقاطفهم وحميرهم ، وعلي صوت النغمات الراقصة مهَّدوا الطريق .
وكان عام اللبؤة عـاماً وطنيـاً :
فقد جنَّدتْ حكومة الثورة شابين آخرين بالقوَّات المسلحة المصرية ، بالإضافة للجنديين المجندين من قبل : " محمد عامر و سعيد عجوة " . وكنا نحن أهل الجزيرة برغم كل الأحداث التي توالتْ عقب موت اللبؤة ، ننتظر بفارغ صبر لا ينفد ، قدوم الأسد في أية ليلة ، بظن أنه سوف يترك عرينه في التلال الأثرية جنوبي الجزيرة ، للبحث عن زوجته الصريعة ، مقتفياً أثارها عند زريبة السوالمي ، ويجنبنا بذلك مشقَّة البحث عنه . لكنه خيَّب آمالنا فيه ، فلم يتحرك من موضعه ، فنال عظيم احترامنا ، وتقديرنا لبعد نظره ، بعد أن أثبت بحق أنه زوجٌ عاقلٌ . لكنه علي الجانب الآخر استحق سخط نساء الجزيرة وتقولهن بالباطل عليه ، بأنه لا يمكن أن يكون أسداً حقيقياً ، وأنه بالتأكيد تيسٌ بلا قرنين . وازداد اللغط بين الفريقين فيما بعد :
هُن يفتحن أفواههن باتساع ، ويلعبن ألسنتهن بسخرية ، ويقلن :
ـ " تيـس " .
ونحن معشر الرجال ، في المقابل ندقُّ قبضات أيدينا في بطون الكفوف الأخرى ، كيد الهـاون لمَّا تدق قعره ، علامة الغل عند النساء ، ونردُّ عليهن من بين أضراسنا :
ـ " ملك .. ملك الغابة والتلال الأثرية " .
مدخل الجزيرة يبدأ عند كوبري الميزانية ، الذي تحتضن حوائطه المجرى المائي من عند القاع ، حيث ينبت منها وعلي مقدمته ميزان الماء الرخامي الأبيض المستطيل ، خطوطه وأرقامه سوداء ، تبدأ من الصفر وتتنامى مع ارتفاعه . الريس " الهادي " ـ بحَّار الري ـ يمسك بخطافه الحديدي ، يُسقط أويرفع الخشبات في المجرى المصقول بالحائطين المتوازيين اللذين يحفَّان الماء الجاري ، أيام " البطالة " حيث يتوقف الماء أو " العمالة " حيث يتدفق الماء ، فيروِّض اندفاع سريانه الذي لا يتوقف . يرنو للمقياس الرخامي ويسجل في النوتة الصغيرة بقلمه الكوبيا مناسيب الماء ، ثم يدسَّها في جيب صديريته ، يمضي في الشارع الذي يخترق حدائق " الخواجات " الواسعة ، الذي يسلمه بعد وقت قصير مع نهاية الأسوار إلي منطقة خلاء ، لا تلبث أن توصله لأول بيوت الجزيرة والتي تكون في البداية قليـلة ، متناثرة بعشوائية ، ثم تنتظم وتتكاثف فيما بعد لتصنع شارع وسط البلد .