التنافس على قتل العرب والمسلمين
- 1 -
البـوســنة
قبل عامين تقريباً عمَّد الصربيون والصهاينة في فلسطين المحتلة علاقاتهما المشتركة واعترافهما المتبادل رسمياً بالقول: إن الشعب الصربي" و"اليهودي" يتعرضان للاضطهاد من الشعوب الأخرى لا سيما المجاورة لهما.
وتشاء الظروف أن تتصاعد حدة اضطهاد الصربيين لبقية الشعوب في يوغسلافيا بشكل مثير ومكشوف ومقزز منذ ذلك الإعلان حتى اليوم وأن يستمر ارتكاب المجازر بحق المسلمين في قضية البوسنة والهرسك طوال أشهر، وأن يتصاعد أيضاً اضطهاد الصهاينة للعرب في فلسطين المحتلة وعدوانهم ضد السكان في جنوبي لبنان إلى درجة كبيرة جداً.
وعلى حين يمارس الصربيون اضطهاداً وعنصرية غير معلنين في كثير من الحالات، يمارس الصهاينة عنصرية مكشوفة أدينت من الأمم المتحدة بالقرار الشهير (3379). إلا أن ما يفعله الطرفان عنصرية تعي دروس استخدام القوة الغاشمة ضد الآخرين وسحقهم دون رحمة والادعاء في الوقت ذاته بأنهما إنما يقومان بدفاع مشروع عن النفس والحق. في كوسوفا، المقاطعة المسلمة ذات الحكم الذاتي ألقى الصرب قبل أيام بتلاميذ المدارس، المضربين احتجاجاً على المعاملة المرة لشعبهم، ألقوهم من نوافذ الطبقات العلوية وهم أحياء، وداست الدبابات الناس في الشوارع وتم إلغاء الوجود القانوني والرسمي والإداري المستقل لكوسوفا. وفي سراييفو تتم الإبادة للمسلمين بالنار والحديد والحصار، وبالقتل على الطريقة النازية-الصهيونية، رصاصة في مؤخرة الرأس، وفي الضفة الفلسطينية وغزة وجنوبي لبنان يتصاعد القتل والحصار والعدوان بأشكاله الصارخة، ويستمر مسلسل الإبادة الذي غدا يومياً وعادياً دون أي اعتراض، يستمر هذا المسلسل العنصري العدواني البغيض تحت نظر العالم وسمعه وينخر جسد العربي والمسلم ويصل إلى العظام ولا يثير شيئاً أبعد من تسويغ الاستكانة والمهانة.
قتل عربي من غزة فتاة يهودية بعد أن كان اليهود من الوحدات الخاصة قد قتلوا أخاه وصديقين له في ساعة واحدة فضلاً عن قتلهم عشرات آخرين، وحين فعل ذلك قامت الدنيا ولم تقعد، واكتمل المشهد حين طعن عربي حاخاماً قرب دير البلح، واستمر عويل اليهود الصهاينة من نيويورك إلى اليابان عبر الإذاعات والصحف والمجلات، واستباحوا قطاع غزة وحاصروا أهله وفتكوا بالناس في الضفة، ولم يستذكر أحد ما اعتاد الصهاينة على فعله وتبريره من دون استنكار. ونسأل عن الضمير الحي، وعن أولئك الذين يدينون الإرهاب والذين ينادون بعدالة وحرية وديمقراطية واحترام حقوق الإنسان أين هم وأين أصواتهم وأين سطوتهم وجبروتهم؟!
في جنوبي لبنان تعربد الطائرات في السماء وتلقي على الناس فضلات الصناعة الأميرو- إسرائيلية فتحرق الأحلام والآمال في قلوب العرب والمسلمين قبل أن تحرق أجساداً ومحاصيل وتدمر بيوتاً على أهلها؛ ولا يتحرك أحد لا من أجل قرارات مجلس الأمن، ولا من أجل السلام ولا من أجل راحة الضمير. فعلان بتفاصيلهما اليومية يتواكبان ضد العرب وضد المسلمين من عنصرية ذات تاريخ مديد، وعنصرية مستجدة في صربيا تسير على خطا المعلّمين الكبار وتتعاون معهم، ولكن أحداً ممن يحرصون على نظام العالم "الجديد" وحقوق الناس فيه لا يبدي استعداداً للتحرك من أجل وقف المأساة؟! ولكن أية مأساة وأية رغبة في إيقافها تلك التي يمكن أن نفكر بها؟! أوَليست حماقة مطلقة عملية إيقاف ذبح العرب من قبل الصهاينة، وذبح المسلمين من قبل الصرب؟!، أليس ذلك ضاراً بمصالح أولئك الذين يعلنون أن القرن القادم هو قرن سيادة النموذج الثقافي والسلوكي والأخلاقي "للكاوبوي" في كل العالم؟!
والكابوي لا يعيش دون أن يستخدم مسدسه ضد الآخرين، وهو يعلن أن الإسلام والعروبة وما يمثلانه كل ذلك سوف ينهار في القرن القادم. وهذا يشجع الطامعين والطامحين الذين يستفيدون من عربدة القوة وغطرستها في عالم اليوم فيفتكون بالآخرين ليحققوا خططهم، وهم على معرفة جيدة بدرس يقول: "إن ما تحققه القوة لا تلغيه سوى القوة "، فأين قوة العرب التي تلغي الفعل الصهيوني العدواني؟! وأين قوة المسلمين التي تضع حداً للفتك بالمسلمين؟! إن العرب لا يرفعون صوتهم بالاحتجاج على فعل صهيوني ما، فلا أحداث غزة، ولا القتل الذي يستمر يومياً في فلسطين المحتلة والجولان، ولا الاستيطان الذي يقوم على قدم وساق، ولا القصف المستمر لجنوبي لبنان، لا شيء من ذلك كله، ولا ذلك كله مجتمعاً حرك أو يمكن أن يحرك العرب، لا ليقوموا بفعل رادع ويعلنوا غضبة مضرِّية ويستجيبوا لألف "وامعتصماه" انطلقت من القدس وإنما ليرفعوا احتجاجاً ويوصلوا الصوت والغضبة إلى أبعد من إذن المواطن العربي الذي يستمع في إذاعاته تهليلاً لقياداته. فالعرب منضبطون جداً جداً حتى في حالة تقديمهم للذبح، إنهم ينتظرون دورهم، لا تنفرج لهم شفة عن نغمة اعتراض!!. وقد جاء عيد الأضحى هذا العام ليثبت أن اليهود هم الذين يقدمون الأضاحي الأثمن والأسمن والأكثر، ولكن أضاحيهم هي من نسل إسماعيل بن إبراهيم، ذلك النسل الذي أتى عليه حين من الدهر أصبح فيه خرافاً، تفدي -الخراف على مذابح الطغيان وتناقض قصة الملاك الذي أحضر ذِبحاً عظيماً ليفتدي إسماعيل؟!!
لقد أنشبت الانتخابات الإسرائيلية أظافرها في العنق الفلسطينية واللبنانية، وأخذت تضغط وتضغط وتستقطر الدم. والمتنافسون في الانتخابات الإسرائيلية يذهبون أبعد فأبعد في القسوة والعدوان ليثبتوا للناخب اليهودي ولاءهم للصهيونية وأهدافها ولا سيما "إنشاء إسرائيل التوراتية"، وقدرتهم على خدمة تلك الأهداف وتحقيق توسع على حساب العرب؛ وحين تنتهي الانتخابات الإسرائيلية في الرابع والعشرين من يونيو (حزيران)، الحزين من منظورنا، ذلك الذي شهد كثيراً من مآسينا وهزائمنا، لا سيما في 1967 و 1982 والذي يغرق هذا العام 1992 بدمنا على نحو مثير؛ فإن حملة الإبادة البطيئة سوف تستمر ووتيرة العدوان ستتصاعد، وذلك تنفيذاً من الفائز - الليكود أو حزب العمل - لوعوده التي قطعها، وإخلاصاً منه لمبادئه التي يتبناها ولتاريخه الذي يزحف أمامه ويضغط عليه من خلفه، وهو تاريخ دموي أسود بالنسبة لكل من الحزبين.
ويبقى السؤال المر في الحلق: إلى متى سوف يستمر هذا الوضع، وإلى متى يبقى العرب في حالة خراف الأضحى؟! إلى متى يبقى الضعف العربي-الإسلامي عنواناً لهذا العالم الذي لا يستحق هذا الوضع وهذه المعاملة؟! ومتى نخرج إلى دائرة أرحب فيها الكرامة والعزة والقدرة على الدفاع عن النفس والأرض والحق والموقف والعقيدة؟! وكيف السبيل إلى ذلك ومن أين نبدأ؟! ويزحف في ظل ذلك السؤال المر سؤالٌ آخر أكثر إلحاحاً وأشد التصاقاً بأهداف العدوان ومغازيه وهو: هل تنجح "إسرائيل" جرَّاء العدوان المستمر على جنوبي لبنان في جر سورية إلى حرب في غير مكانها وزمانها ويكون في ذلك إجهاز على قوة عربية لا يدعمها تضامن عربي ولا تستند إلى قوة دولية تمِدُّها بالدعم والسلاح؟!
وهل تنجح، إذا ما جرتها إلى حرب في غير مكانها وزمانها، هل تنجح في القضاء على القوة التي ما زالت تطالب بحق وأرض وتنادي بتطبيق قرارات يراد لها أن تموت ابتداء من القرار (194) وانتهاء ب(242) و(338) و(425)؟! وهل تنجح "إسرائيل" في التوصل جرَّاء استمرار العدوان إلى حالة استفزاز للآخرين تجعلهم يتحملون "مسؤولية" إفشال جهود السلام تلك التي تعمل من أجلها "إسرائيل" وتؤيدها أوساط في الولايات المتحدة الأميركية؟!
إن المتنافسين في "إسرائيل" على السلطة يركِّزون دعواهم فضلاً عن تركيز عدوانهم على أنهم لن يعيدوا لسورية من الجولان شيئاً، وأنهم يتحدون كل ما بني عليه مؤتمر مدريد وقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن؛ وفي هذا استفزاز وضغط على الأعصاب يضاف إلى القتل فهل يؤدي ذلك إلى فعل سوري يؤدي بدوره إلى تحقيق هدف " إسرائيل " المدروس؟!
ومن زاوية أخرى، وعلى عتبة الاستحقاقات اللبنانية المختلفة، هل ينجح الفعل العدواني الاستفزازي " الإسرائيلي " في لبنان، هل ينجح في إحراج سورية حيال لبنان الرسمي والشعبي وإظهارها بمظهر غير القادر على أداء التزاماته التي تفرضها العلاقة المميزة وما اشتق من ميثاق الطائف وبني عليه؟! وهل ينجح العدوان " الإسرائيلي " على حزب الله واتهام " إسرائيل " المستمر له ولإيران وسورية بتعكير الأمن، في جعل إيران تتراجع بوضوح أو تدخل الساحة دخولاً أكثر وضوحاً؟! ولكل حالة من هذه الحالات دلالاتها وتكاليفها، ولكل وضع ما يرتبه من فعل ورد فعل في المدى الدولي كله؟! أسئلة كثيرة تطرح نفسها جرَّاء الأوضاع السائدة وأسئلة أخرى تنبت على أرضية تلك الأسئلة، وكل ذلك يغري بالبحث في احتمالات شتى، ولكن عالم المؤكدات والوقائع الذي نعيشه يومياً حتى في أيام عيد الأضحى المبارك هذا الذي مر، تشير إلى استمرار التقدم العنصري ضد العرب والمسلمين وإلى ذهاب منطق القوة إلى حدود اللاعودة في عدم مراعاته للقوانين والأعراف الدولية وفي استهتاره بالعرب والمسلمين على حد سواء. وحين ننظر إلى المشهد الذي تبرز ملامحه أمامنا من سراييفو إلى لبنان وغزة وأفغانستان، وإلى علاقات العرب بالعرب والمسلمين بالمسلمين ووضع أولئك ووزنهم في كفة القوة التي لا يعترف عالم اليوم إلا بها، يداخلنا الحزن ويكاد يداخلنا اليأس؛ ولكننا سنبقى نعتِّق الحزن ونسقي به غراس الأمل فهكذا علمنا وهكذا يعلمنا التاريخ: الأمم لا تموت، والعقائد الكبرى راسخة هي الأخرى ولن تموت.
- 2 -
دم في البوسنة ونفاق في الغرب
النفاق الغربي بلغ حدوده القصوى في قضية مسلمي البوسنة والهرسك، والتواطؤ الكريه تفوح رائحته من الدبلوماسية الحاذقة المغلفة بإنسانية غربية مزدوجة المعايير، كثيرة الأقنعة، ومخطط الإبادة الذي يمارسه الصرب العنصريون ضد أولئك الأبرياء يلقى سكوتاً عالمياً، ويتحول عند المتشدقين بحقوق الإنسان والمنادين بذهاب عصر العدوان على الدول والشعوب إلى غير رجعة في ظل نظامهم الدولي الجديد إلى مشروع قرار يتلطَّى ويتمطى في أروقة الأمم المتحدة ومجلس الأمن لإيصال الأغذية بالقوة، إن استدعى الأمر، إلى سراييفو؛ بينما يتناسى أولئك الوحوش الذين يختالون ببزاتهم الرسمية الأنيقة تدفق الأسلحة المتطورة على الصرب من أوربا كلها ومن "إسرائيل"، ليستمروا في حرب الإبادة التي يشنونها على البوسنيين، في حين لا يصل إلى هؤلاء، الذين يتخبط رُضيعهم بالدماء النازفة من جراحهم، لا غذاء ولا دواء ولا سلاح يحمون به أنفسهم ويخففون وطأة الإبادة وزحفها عليهم، ولا يجدون من يصرخ معهم بملء الصوت أن كفى استهتاراً بالعقل البشري وبالقيم الإنسانية والخُلُقية ، وبحَيَوات الأفراد والشعوب وبحق الإنسان في الحياة، مجرد الحياة، وكفى تواطؤاً عنصرياً وطائفياً ضد الآخرين تحت ذرائع لا حصر لها.
لقد هُجّر أكثر من ثلث شعب البوسنة والهرسك، وقتل الألوف المؤلفة من أبنائه، واجتاحته المجاعات والأوبئة، وشرد من أرضه، وأقيمت له معسكرات الاعتقال، التي لم تعرف إلا العنصرية الصهيونية والنازية لها شبيهاً! وكل ذلك الذي يجري تحت سمع العالم وبصره، يجري في الدار الأوربية التي تدعي التحضر، وفي ظل وجود تيارات عنصرية في أنحاء مختلفة من تلك القارة ترى في ذوي "الرائحة الكريهة" وفي "الأفارقة السود" وفي المسلمين والآسيويين عناصر لا تتمتع بحق الحياة، وعناصر مرشحة للإبادة بأشكال مختلفة، حتى تخف وطأة الانفجار السكاني على المستغلين الغربيين. ويكفي أن نذكر " هنري لوبين " وميلوسوفيتش وشامير لنستجمع ثلاثياً عنصرياً يصبح عنصريو جنوب أفريقيا له دعماً وسنداً في عالم يجتاحه الحقد والمكر في ظل قيادة أميركا له، تلك القيادة التي لا تحركها سوى رائحة البترول والدم والمصلحة الفاسدة، ولا تغريها إلا الحروب المدفوعة القيمة، التي تفوح منها العنصرية والأحقاد البغيضة ضد الشعوب والثقافات والعقائد الأخرى.
إن التصفية الجسدية البغيضة التي تتم ضد مسلمي يوغسلافيا امتداداً من كوسوفو قبل سنوات وانتهاءً بالبوسنة والهرسك اليوم لم تلق استنكاراً ولم توقف، لأن عجلة الإعلام الغربي لم تُحرك من قبل السادة الغاطسين في التواطؤ في هذا الاتجاه لتحدث أثراً؛ ولم تلق استنكاراً وموقفاً مؤثراً يذكر من قبل المسلمين الذين تجتاحهم موجات الاقتتال الداخلي، أو الخوف من فتك الآخرين بهم، أو البلادة التي لا تحرك شق القلب عندما يفتك بالشق الآخر فسادٌ وموت، لأن المسلمين غارقين في المشكلات والسلبيات والتناحر على الصغائر. ولم تلق من العرب، قلب العالم الإسلامي، تجاوباً يذكر لأنهم "يخجلون" من أن يرتفع لهم صوت في قضية تتعلق بالإسلام والمسلمين، فهم العلمانيون المتقدمون في "طوابير" لنيل وثيقة "المدنية" وحسن السلوك من الغرب الذي يستدنيهم خطوة خطوة من محو الذات ومحو القيمة ومحو الوجود!؟ وهم "التقدميون" الذي يترفعون على الكلام في القضايا ذات الطابع الديني أو العرقي أو الطائفي، ويرتدون أزياء العصر المستوردة من واشنطن ولندن وباريس، وربما من "تل أبيب" رابين، ويتقدمون زرافات ووحداناً من "موائد" السلام المفروشة بالمهاجرين اليهود، ومليارات الدولارات، والبرامج الاستعمارية الاحتكارية التي تتضمن تصفية وجودهم الحيوي وحضورهم الثقافي الفاعل ببطء وتصميم!؟
بعد أشهر مرَّة، ولا أقول أياماً، وبعد مجازر رهيبة، وبعد غرق الرُضّع البوسنيين في دمائهم البريئة، وبعد فتح معسكرات الاعتقال، وبعد حصد الأحياء والقرى والناس من مختلف الأعمار، وبعد حصار طال واشتدّ وهدّ الحيل والروح، بعد هذا كله، تفكر الآن أمريكا وبريطانيا "جدياً"، بتقديم مشروع قرار إلى مجلس الأمن الدولي "العريق" يتضمن يحمل تلويحاً باستخدام "القوة" لإيصال الغذاء والدواء إلى سراييفو؟!
أفرأيتم عجباً أعظم وأشد عاراً من هذا العجب الذي يفيض "زهو مرارة"؟!
استخدام القوة لإيصال الغذاء، وليس استخدام القوة لمنع الإبادة، أو لمنع وصول السلاح إلى الصرب العنصريين الذين يشنون الحرب القذرة منذ شهور على سكان لا يملكون السلاح، ولا يطلبون إلا الحرية وتقرير المصير؟! أليس ما في هذا القرار الأميركي البريطاني-الفرنسي عموماً يستحق التقدير والاحترام ومسيرات التبجيل؟! أليس مجرد التفكير بهذا ينطوي على فضائل كبيرة لا بدّ من إظهارها على الملأ؟! مرّ ليل الضعف، ومرّ ليل المعاناة في ظل الضعف والنفاق والتواطؤ، ومرّ كلُّ وقت يقضيه الإنسان الحق في عالم يخلو من كل اعتبار للحق، مرَّ ليلُ الإنسانية في ظل القيادة الغربية- الأميركية لعالم فقد ظله ولونه وحضوره واحترامه. وأشد من كل المرارة توزع المثقفين والمبدعين والمنتمين إلى شرائح حقوق الإنسان والضمير الحي، على ولاءات وانتماءات تموت الحرية والعدالة والإنسانية في ظلها، ويتمزق قلب الوجود مزقاً تحمل لون الحقد وتعزف لحنه وهي تخفق مع الريح، لتعلن عن ذلك الوجود الذي يكثر ادعاؤه ويقل أداؤه إلى درجة العدم.
ـ3ـ
ميزان العدل في البوسنة
الولايات المتحدة الأميركية تنتقد حلفاءها الغربيين لموقفهم من مقترحاتها وخططها لوضع حد لمأساة المسلمين في البوسنة والهرسك، وفرنسا ترد على انتقاد أميركا بانتقاد أشد، وبريطانيا ترفض التدخل، وروسيا يلتسن، تقود حملة دبلوماسية هدفها مد عمر المذبحة إلى أن تتم الإبادة؛ والكل هناك في الغرب "المتمدن العادل "يمسح يديه بجلد الشاة ويغسل فمه من بقايا الدم واللحم، ويغيِّر قناعه، ويتصرف ببرودة معهودة في المجرمين العريقين الذين يقتلون ثم يعتلون منصة القضاء ليصدروا الحكم على الضحية متناسين القاتل.
قد يأخذ المرء العجب من وقاحة الغرب وجرأته على ممارسة إزدواجية شاملة في المكاييل والأخلاقيات، وقد يغضب ويثور لأن حلفاء الأمس الذين كانوا يقطرون حماسة وعدالة وحرصاً على حقوق الإنسان يظهرون اليوم كمن لا يجمعهم تحالف ولا حرص ولا حمية من أي نوع؟! ولكنه حين يدقق جيداً يرى الذئاب بمكرها وغدرها لم تتغير طبائعها ولكن تغيرت مصالحها وفرائسها ولذلك أخذت بتغيير مسالكها.
إن الأوروبيين يظهرون عجزهم التام عن حل مشكلة البوسنة والهرسك، وتواطؤهم بيِّنٌ مع الصرب العنصريين، الذين سجلوا أرقاماً قياسية في الأجرام؛ ولا يريد الأوروبيون إيقاف ذبح المسلمين البوسنيين إذا كان ذلك يكلفهم قتيلاً أو حفنة من الدولارات. فليس لهم مصلحة بالتدخل، وأميركا لا تقل عنهم بؤساً خُلُقياً وتواطؤاً مقيتاً وخداعاً ونفاقاً، ذلك أنها تسكت، وتخفي أظافرها في جيوبها وتبتلع أنيابها، وتذرف دموع التماسيح باسم "حقوق الإنسان" بينما يستمر مخطط الإبادة الكريه ضد شعب البوسنة المسلم، وترتكب أكبر الجرائم وأفظعها بحق البشرية حيث يباد شعب لأنه يقول ربي الله، وبسبب اعتقاده، واعتقاده فقط.
وقد رأينا تلك " الأميركا " ذات أنياب وأظافر تتفنن في القتل وتظهر قدراتها الخارقة وتصول وتجول شبه وحيدة على جبهات أخرى، وهي حتى الآن ترعد وتزبد وتحرك قواتها عندما يتعلق الأمر بحلفاء أو بمصالح لها؟ ولكن ما هي مصلحتها في البوسنة والهرسك حتى تتحرك؟! ولأي سبب تتدخل في مستنقع دام هناك وتغضب بعض حلفائها الأوروبيين وتتحمل نفقات لم يقررها الكونغرس بعد؟!؟
هل لتحمي حقوق الإنسان؟! إن الأمر يستدعي التفكير من قبلها ويستدعي التدقيق أيضاً: فأي إنسان ذاك الذي تهدَر حقوقه؟! هناك في العرف العدلي -الحقوقي- الحضاري (؟!) الأميركي مخلوقات في صورة الإنسان، وهناك مخلوقات إنسانية فعلاً، وحتى لا يكون الأميركيون ممن (شبِّه لهم) فهم يتأنون ويدققون ويحسبون حساباتهم جيداً ولا يتعجلون مطلقاً.
فلم يمنعون الإبادة ويقفون بوجه حلفاء الأمس واليوم وغداً إذا كان الأمر يتعلق بمسلمين لا يستطيعون دفع تكاليف إنقاذهم من الذبح ولا توجد عندهم مصالح لأميركا، ولا تتحقق لأميركا مصالح خاصة بإنقاذهم؟! إن المرتزق لا يتحرك للعمل إلا إذا وجد جيوبه مليئة والإغراءات التي أمامه كبيرة. والبشر الذين أمام المرتزقة الغربيين الآن لا يقدمون شيئاً من ذلك، بل يقدمون إغراءات معاكسة تماماً، فهم مسلمون وفقراء، ويحتاجون إلى الطعام والحماية، ولا يوجد لديهم ثروات تنهب، ولا مصلحة لمن يدافع عنهم في أن يفعل ذلك، فلم إذن يتحرك الغرب لذلك؟! وهل الغرب المستعمر غبي إلى حد التمسك بقضية إنسانية خُلُقيَّة نقية لا يأتي من ورائها نفع من أي نوع؟! لا.. لقد أثبت التاريخ أنه ليس كذلك ولن يكون.
وإذا ما تحرك في وجدان أي إنسان شعور أو سؤال يدفعه للصراخ: "فليتدخل العالم باسم مجلس أمنه.." ضحك الغرب منه كثيراً، وقهقه راعي البقر وهو يمسك حبله بيده ويضع سيجاره بين شفتيه وقال: غبي.. وهل العالم إلا نحن، وهل نحن سوى مصالحنا وأحقادنا؟ وهل من مجلس للأمن له أنياب وأظافر إلا إذا أردنا نحن له أن يكون كذلك؟!
إن العالم البسيط لا يحسن قراءة التاريخ، وما زالت لديه أوهام عن العدالة ولديه أحلام أكبر بوجود مؤسسات دولية تقيم الحق والعدل على قدم وساق!!
مسكين شعب البوسنة المسلم أنه بكل البساطة التي في الدنيا ضحية تواطؤ العنصرية الصربية مع العنصرية الصهيونية، اللتين تعملان مع سائر العنصريات تحت مظلة القوة الغاشمة، تلك التي تهمهما مصالحها وإبادة الذين يغايرونها.
مساكين أطفال البوسنة إنهم صفر الوجوه ينتهك قلوبهم الرعب، ويفتك بعقولهم ونفوسهم السؤال البريء المر: لماذا؟! لماذا نباد هكذا.. ولماذا لا يتحرك أحد لمنع ذبحنا نحن وأمهاتنا وأبنائنا بالجملة؟!
أيها الأطفال الأبرياء المساكين.. أيتها العيون التي تكويها نار الحسرة.. إنكم في قبضة العنصرية مثلما أخوتكم في فلسطين العربية في قبضتها.. إنكم أطفال مسلمون ولذلك يجب أن تبادوا. إنكم فقراء ولذلك يجب أن تعانوا، إنكم غرباء في محيط ثقافي- عرقي- متعصب يزعم أن الدين يحركه وهو من كل مقولات الدين الحق براء، إنكم سوف تدفعون الثمن لأن قلب قاتلكم خبيث، وقلب سيد العالم الذي يقول إن له نظاماً جديداً، أخبث، ولأن أخوتكم من المسلمين والفقراء والمقهورين في كل أرجاء العالم، من كل أبناء الأديان والأمم، ضعفاء حتى العظم.. متهافتون حتى الموت.. مستضعفون حتى التآكل!!
إنكم ستدفعون الثمن، وهو ثمن غال جداً.. إنه دمكم الذي يفيض على أرض الحضارة الغربية في نهاية القرن العشرين، ذلك الذي تدوسه أحذية الإجرام العنصري منتشية تحت ضوء الشمس بقوتها وقوة أولئك الذين تطمئن لدعمهم حتى لو زمجروا من بعيد ولوحوا لها بقبضاتهم.. إنكم سوف تموتون بقسوة لأن العالم فقد أخلاقه وروحه وقيمه وإنسانيته، ولأن قرش الصيرفي وليس محبة المسيح هو الذي يحكم "مدينته" ومدناً أنتم مبذورون فيها..
وستموتون دون ما أمل لكم حتى بأكفان وقبور لأن من تجمعكم بهم أخوة العقيدة والإنسانية والفقر والقهر لا يملكون أن يعطوكم من قروشهم حتى ثمن الكفن والقبر، لأن قروشهم ملك لأبناء الصيارفة.. أبناء الأفاعي الذين يكثرون بإبادتنا ويقوون بتفرقنا وضعفنا، ويفتكون بعالم أرواحنا؛ لأننا نملك الاستعداد للهزيمة أمامهم.. فنحن منخورون من الداخل، وقد عفا الزمن على إيماننا ووجداننا وحضورنا كله.
لكم الحب أيها الأطفال البوسنيون.. الفلسطينيون.. لكم وردة من كلام.. لكم خلود الذكر في وجداننا المرقَّع بألف خرقة من ألف قرن وقرن.. لكم دموعنا.. ولكم رحمة الله.. فنحن في ظل عالم يحكمه الشر نعيش عصر عدالة الشرير.. وإنها لأبغض ما عرفت البشرية.. والحياة على الأرض.