إخوانى وأخواتى الاعزاء
النفط والماء.. العرب والترك
لم تبدأ المغالطة المكشوفة، مغالطة النفط والماء، في تركيا ولم تنطلق أصلاً منها، وإنما بدأت في الدوائر الصهيونية، وعلى ألسنة يهودية-عنصرية اكتنزت الخبث والخداع وثمَّرتهما واستثمرتهما عبر التاريخ. ولم تتفجر تلك المغالطة إعلامياً عندما نطق بها مسؤول تركي كبير منذ أيام إلا بعد أن تم تخطيط وتدبير صهيونيان لذلك، وربما بدفع مباشر ومباركة واستعجال من رأس الأفعى في فلسطين المحتلة، الذي كان يقوم بزيارة لتركيا قبل أيام: حاييم هرتزوغ.
وإذا كان النفط قد أصبح ثروة وأصبح عصب الطاقة ومصدرها الرئيس، بعد الاهتمام المتزايد باستخراجه واستثماره وتصنيعه، لا سيما بعد عام 1870، وبعد ازدياد الاعتماد عليه نتيجة اختراع المحركات الانفجارية واكتشاف الكهرباء ونمو العصر الصناعي، حيث أصبح النفط مصدر الطاقة وعصب العصر ومقوماً رئيساً من مقومات الحضارة والثروة في القرن العشرين؛ إلا أنه لم يكن عصب الحياة وشريانها الرئيس بالنسبة لجميع الكائنات الحية منذ وجدت الحياة على الأرض، ولم يكن يوماً العنصر الذي لا تتكون من دونه حياة كما كان شأن الماء منذ الأزل وكما يبقى كذلك شأنه إلى الأبد.
وإذا كان النفط ثروة طبيعية متوطِّنة في بعض بقاع الأرض، مستودعه في أجواف منها، يبذل الإنسان جهداً ووقتاً ومالاً، على أرضية من معرفة وعلم، ليستثمر تلك الثروة بعد أن يكتشفها ويستخرجها، شأنه في ذلك شأن الثروات الطبيعية الأخرى كالحديد والنحاس والذهب والفضة والفوسفات والكبريت وغير ذلك من الثروات الطبيعية التي لا يخلو منها بلد، قل نصيبه منها أو كثر، فإنه ليس كماء الأنهار والبحار أبداً: وجد منذ وجدت الأرض مبذولاً للخلق كل الخلق، جارياً بقدرة واقتدار، يستمد من الطبيعة تجدداً وانطلاقاً، ويُمِدُّ الحياة بتجدد وانطلاق، تغدقه عيون السماء في مواسم معلومة، فتفيض به الأرض في مواسم معلومة أيضاً؛ ويبقى ينبوع الخالق الذي منحه للخلق، متدفقاً على مر العصور، يغذي الأرض بشرايين خلقها الرب وجسدتها الطبيعة، تربط الجغرافية السياسية بروابط إنسانية أبقى وأخلد وأعرف وأكبر من الأمم والأقوام والحكومات والحكام.
فالأنهار أقدم بكثير جداً من البشر وخلافاتهم وسياساتهم ومصالحهم، والماء فيها هبة الله لخلقه كل خلقه وللكائنات الحية كلها، يشكل قوام الحياة الذي لا تقوم من دونه حياة أبداً، شأنه شأن الشمس والهواء والتراب. وإذا كان الفرات ودجلة يربطان حيوياً تركيا وسورية والعراق، فإن نهر النيل يربط دولاً أكثر من ذلك، والدانوب شريان في الأرض يمتد عبر دول كثيرة من دول أوربا، والفولغا والمسيسبي والغانج وغيرها من الأنهار تمتد في جغرافية السياسة ولا تستطيع أن تدعي ملكيتها سياسة. والماء، لا سيما الجاري منه عبر الأرض، ملك للأحياء وللحياة في تلك الأرض، ولم يكن يوماً عبر التاريخ البشري كله، يُحكم بقانون استثمار ثروات الطبيعة المدفونة في باطن الأرض كالفحم والرصاص، أو المبثوثة على أجزاء من سطحها كالغابات والرخام...الخ.
وللأنهار والبحار قوانين دولية تحكمها، ومحاكم ولجان تحكيم يُحْتَكم إليها في كل ما يَشْجُر من خلاف حول الاستفادة منها، كما أن للثروات الطبيعية الموجودة في باطن الأرض، ضمن إطار الجغرافية السياسية للبلدان، قوانين خاصة بالبلدان تحكم استثمارها والاستفادة منها.
وهذا أمر معروف للجميع تدركه الشعوب والحكومات ويدركه الأتراك كما يدركه العرب، وسائر أمم الأرض والأقوام فيها عبر التاريخ. فلماذا تفجير هذه القضية الآن إذن، قضية الخلاف على مياه الفرات، وإعلان موقف منها على الناس في هذا الوقت وهذه الظروف؛ بعد أن كان الهمس بها والتصريح عن جوانب منها منذ سنوات معدودات فقط، وتحديداً منذ بدأت "إسرائيل" العنصرية تتحدث عن "سلامها" ومشاركتها لشعوب المنطقة بكل ما يعني المنطقة من شؤون، وإشاراتها مباشرة أو مداورة إلى الأنبوب "الطيب"، الذي ينطلق من تركيا عبر بلدان الشرق الأوسط ليزود المنطقة بالماء، وإيحائها للأتراك بأن يبيعوا الماء لأهل جزيرة العرب، مثلما يبيع أولئك النفط للعالم؟!
ولا يمكن استبعاد هذا التفكير والتخطيط عن مجمل ما يدبر للمنطقة من مخططات، وعن أهداف الاستراتيجية الجديدة للغرب والصهيونية اللذين يتعاونان منذ عقود ضد شعوب المنطقة ولتنفيذ سياسات فيها.
فبعد أن دفَّع اليهود الدونما السلطان عبد الحميد ثمن رفضه أن يبيعهم فلسطين، بما فيها القدس، لتكون وطناً قومياً لهم مقابل تسديد ديون الباب العالي؛ دفَّعت أوربا كلها الإمبراطوريةَ العثمانية ثمن وجودها الثقافي-السياسي المتميز ومزقتها شر ممزق، ورمت شعوبها بعضها ببعض، مستثمرة الظلم والإفساد اللذين مارستهما والقوة التي غدت هي مالكة لها باقتدار.
ومن أجل تمرير وعد بلفور وإقامة وطن قومي لليهود مزقت بلاد الشام إلى "دويلات أربع" ووضعتها تحت الحماية والاستعمار المباشر. وقبيل إقامة الدولة اليهودية في فلسطين دقت فرنسا إسفينين في العلاقات السورية التركية: الأول في بداية فترة استعمارها بإلحاق كيليكيا بتركيا، والثانية قبيل نهاية فترة ذلك الاستعمار بإلحاق لواء إسكندرون بها أيضاً. وكان من الأهداف شغل العرب بالتمزق والتناحر وشغل سورية بخلافات وحروب ومعارك مع الجوار، ليسهل زرع الدولة الصهيونية ورعاية نشأتها.
وكان ما كان مما نعرف جميعاً، أما اليوم فيحين موعد استحقاق آخر، هو "إشاعة السلام حول الدولة الصهيونية"، والاعتراف بها وجعلها تشارك فعلياً وطبيعياً بأمن المنطقة، كل أنواع أمنها: "الاقتصادي والغذائي والمائي والعسكري والسياسي والثقافي... الخ"، وتهيئة المناخ الملائم لتنفيذ مرحلتين أو هدفين في الاستراتيجية الغربية- الصهيونية المقبلة:
1 - " إسرائيل " الكبرى، وهذا يتضمن الهجرة وخلق المناخ الملائم للتوسع الاستيطاني.
2 - "القضاء" على الإسلام والعروبة. ومن الحيوي والضروري جداً لتنفيذ هذين الهدفين، إضافة إلى أهداف أخرى، أن تتنامى الصراعات العربية- العربية، والعربية- الإسلامية، وأن تشغَل سورية تحديداً، من بين الدول العربية، بمعارك وصراعات جانبية؛ لا سيما بعد أن قضي على قوة العراق وعُطِّل دوره لفترة زمنية قادمة غير منظورة. وعندما يوقد فتيل الخلاف حول قضية حيوية مثل المياه فإن جهد سورية والعراق ودول عربية أخرى سوف يستَقطب في هذا الاتجاه من جهة، وجهد دول إسلامية على رأسها تركيا لابد أن يستقطب أيضاً في هذا الاتجاه، من جهة أخرى. وعند ذلك ترتاح " إسرائيل " وتدخل حكَماً أو طرفاً هي والغرب الذي يدعمها.
وإذا أضفنا إلى هذا الاحتمال، الذي يخطط له ليصبح واقعاً، احتمال استقطاب دول إسلامية وعربية حول محوري الخلاف أو الصراع، فإن عجلة التدمير الذاتي سوف تدور لتطحن عرباً ومسلمين، بأيدي عرب ومسلمين.
ومن زاوية أخرى تهدف " إسرائيل " وحلفاؤها إلى شغل تركيا بقضية المياه هذه لتصرفها عن الاهتمام بمسلمي آسيا الوسطى، الذين يرتبطون بها قومياً بروابط كما يرتبطون عن طريقها استراتيجياً وجغرافياً بالعالمين العربي والإسلامي، وهذا الأمر هام جداً بالنسبة لـ " إسرائيل " خاصة وللغرب عامة؛ لأنّه يمكّن أولئك من استقطاب الطاقات العلمية والتقنية- ولا سيما النووية وتلك القادرة على التعامل مع الأسلحة المتطورة تصنيعاً واستخداماً- في برامج استخدام طويلة الأجل ميسورة التنفيذ، وتجعلهم واثقين من عدم تمكن العرب والمسلمين- جرَّاء الخلافات والتمزق- من الحصول على أي سلاح ذي قوة تدمير شامل، لا سيما السلاح النووي، بمواجهة " إسرائيل " التي تملك ذلك السلاح. كما أن ذلك يهيئ الظروف والشروط اللازمة لبقاء العرب والمسلمين خارج دائرة التقدم العلمي والتقني والحضاري المطلوبة لمجاراة احتياجات القرن القادم ورهاناته وتحدياته، ويجعلهم يساهمون بتفتيت أنفسهم وقواهم وبتنفيذ أهداف ومراحل الاستراتيجية الغربية- الصهيونية المرسومة والمطلوب تنفيذها في القرن القادم.
وهي تلك التي تنذر وتبشر بانهيار العروبة والإسلام في القرن الحادي والعشرين كما انهارت الشيوعية في القرن العشرين، وترى -حسب مطلب " إسرائيل " وقادة الصهيونية- أن " الأصولية الإسلامية " خطرة كالشيوعية. وهي تعني الإسلام وليس التطرف الديني، لأنها لو أرادت ذلك لرأت التعصب الديني الفج والعنصري، المتطرف في "أصوليته"، في " إسرائيل "؛ تلك التي تقوم على حلم تاريخي حمّل على الدين وأُشْرِبَه المتدينون التوراتيون، وتعصبوا له وذبحوا الأبرياء وما يزالون يذبحونهم ليحققوه، وهو أنموذج التعصب "الأصولي" العنصري الأوضح في التاريخ المعاصر كله؛ فلماذا إذن لا يُرى ولا يُشار إليه من قريب أو بعيد؟!
إن الخطط والتدابير التي تحاك لأبناء هذه المنطقة وشعوبها وحكوماتها دقيقة وخطيرة ومستمرة، ولن تتوقف مادام سم عنصري يهودي يُقذَف في أصلاب صهيونية- مسيحية تنمو، ومادامت هناك مصالح وأطماع للغرب في الشرق يراد تنفيذها بالقوة وأساليب القمع والسلب والاستلاب.
وعلى العرب والمسلمين عامة، والأتراك والسوريين خاصة، ألا يقعوا في الفخ؛ وأن يدركوا أهداف اللعبة، لا سيما في ظل مخططات تقسيم العراق التي تعسُّ تحت الرماد، ومخططات بريطانيا للسيطرة على نفط شمال الوطن العربي عبر تصنيع كيانات هشة وشروط ملائمة لذلك.
فليجمعنا الوعي بالمصير المشترك والعقيدة المشتركة والانتماء لهذه الحضارة العريقة: الحضارة العربية الإسلامية وروح الشرق، قبل أن تفرقنا مصالح ضيقة وعبثُ المغرضين الحاقدين على أمتنا عبر التاريخ بنا، والذين ينمُّون الخبث والخداع ويستثمرونهما في أوساط الطيبين. فليبق العرب والأتراك أخوة على المدى كما كانوا، وليكشفوا الألاعيب التي طالما مارسها اليهود- الصهاينة وأدت إلى مذابح وفتن وخسائر يذكرها التاريخ جيداً؛ وعلينا أن نستذكرها نحن أيضاً جيداً حتى لا نلدغ من الجحر ذاته مرتين.
الأسبوع الأدبي/ع322//1992.